الجواب الواحد – جودت سعيد –

رأيت في إحدى القنوات الفضائية حواراً مع شخصية تمثل الاتجاه الإسلامي وفي قناة أخرى حوار آخر مع شخصية تمثل الاتجاه الشيوعي، ووجه لكل واحد منهما سؤال محدد، ولكن الجواب كان واحدا من كلا الشخصين. والسؤال كان: “هل مارستم العنف ضد الحكم في سعيكم؟” فكان جواب الإسلامي والشيوعي واحداً: “نعم استخدمناه ولكن كان ذلك دفاعاً عن النفس”. إن هذا الحوار وهذا الجواب يعرض على الناس جميعاً تشابه الإشكالية التي تقع فيها جميع الحركات، ويحتوي هذا الجواب على محاولة إعطاء مشروعية للدفاع عن النفس من الممثلين للاتجاه الإسلامي والاتجاه الشيوعي، وهذا يوحي إلى المشاهد والمستمع أن هذه الحجة حجة قوية، ويوحي بأن هذا السلوك هو السلوك البشري الوحيد الذي لا بد من اللجوء إليه. إن هذا المفهوم الشائع عند الاتجاهات المختلفة هي التي تحول دون تولد فكرة الديمقراطية في البلاد الإسلامية، ويبقى تبادل السلطة بالأسلوب التقليدي، ويبقى تبادل السلطة بالقوة والوراثة. فكيف نضيء هذا الظلام وكيف نرفع صوتا ثالثاً فوق هذا الإسلامي والشيوعي الذي منطلقهما واحد؟ إن مناصري هذين الاتجاهين لا يفهمون ولا يفكرون في المعاني التي يقررونها حين يقررون أن الدفاع عن النفس شرعي عند الاعتداء.

إن هذه المرجعية والمسلمة العميقة للعنف خلال التاريخ هي التي أفسدت الحياة وأعطت القيادة للأقوياء لأن لهم القدرة دائماً على جر الآخرين إلى ساحتهم، إلى المعركة بالقوة التي هي غير متكافئة. إن محتوى الجوابين تدل أن القوة هي التي لها القيادة. إن دخولنا إلى العنف سببه هو هذا الفهم الذي يرسخ شريعة الغاب وشريعة القوة، ويلغي شريعة العقل والعلم، ويلغي القدرة البشرية على الفهم والتفهم وإمكانية إقناع الناس. لهذا كل من الإسلامي والشيوعي لا يقبل الديمقراطية، لأن الديمقراطية في أعماقها العميقة هي ترك الوسائل العنيفة من الفرقاء جميعاً واللجوء إلى العقل والإقناع. هذا الأساس لم يترسخ عند المسلمين، أي الذين يعيشون الثقافة التقليدية الإسلامية، سواء كان من يعيشها مسلماً أو شيوعياً، لأن أحداً منهم لا يثق بالعقل ولا يعتقد أنه يمكن أن يربح معركة الديمقراطية.
ليس المهم الأسماء ولكن التصور الذي في أنفس جميع الجهات سواء، وإيمانهم بالديمقراطية ليس فهما لمحتواه وإنما هو نوع من التكتيك والمغالطة لإدانة الآخر فقط. وتستفيد جميع الأطراف من تكتيك الإدانة. فالمعارضون للمسلمين يخشون الثقل الإسلامي الذي لم يتحرر الناس بعد منه وبالتالي سيجعلهم يكسبون المعركة الانتخابية ويغتالون الديمقراطية، وأنهم سيستخدمونها لمرة واحدة –حتى رئيس أمريكي سابق استخدم هذا العبارة “لمرة واحدة”–، ولكن يجب أن ندرك أيضا أن المسلم يتهم بأنه يستخدم الديمقراطية لمرة واحدة لأنه إذا صار بيده القوة فلن يتركها للآخرين عن طريق صناديق الاقتراع، لأنه لا يريد أن تسقط شريعة الله في الانتخابات حسب فهمه. ويظنون أنه هكذا يصنع الحق، بالإكراه. ولذا يستمر الخطأ والباطل.
ليس هناك من يثق بالعقل الإنساني، حتى أمريكا لن تقبل أن يطرح حق الفيتو للاستفتاء على  البشر، وتحمي هذا الحق بالقوة. في حوار تلفزيوني عن الفلسطينيين الذين يقتلون على أساس أنهم إرهابيون سأل مدير الحلقة الشخص الأوربي المشارك في الندوة، كيف تسمون الفلسطيني الذي سلبت منه أرضه ودياره إرهابياً حين يضرب بالحجارة عن بعد إلى ذاك الذي ينزع الأرض ويخرج الناس من بيوتهم ويدمرها أمام أعينهم؟ هل كان الفرنسي الذي احتلت أرضه من قبل الألمان إرهابياً حين كان يقاوم الألمان لإخراجهم من فرنسا؟ أجاب الأوربي الذي شارك في الندوة بكل برود: نعم، كان إرهابياً في نظر الألمان الذين استولوا على فرنسا. ما معنى هذا الكلام؟ في زمن سقراط كان هناك السوفسطائيون الذين يقولون ليس هناك من حق لأن الحق عند هذا باطل وحق عند ذاك الآخر. هذا انسلاخ من الإنسانية، وما يقال عنه حقوق الإنسان إذن كلام فارغ، وبنظر مثل هذا الإنسان فإن المرجعية هي للقوة أيضا.
وأنا أقول إن الأنبياء وحدهم هم الذين آمنوا بالعقل البشري، وأنه هو المرجع، وأن العلم هو الوسيلة. علينا أن نفهم أن هذا هو ما جاء به الأنبياء علناً حين قالوا (لا إكراه في الدين) وأن الديمقراطية قالت هذا ولكن سراً ومن دون إعلان. إن الديمقراطية لن تدخل إلى بلد تحول فيه الإيمان من العقل إلى القوة.
تقوم الأقنية الفضائية بدور كبير في موضوع الإنسان وطبيعة الإنسان المزدوجة في ألهمها فجورها وتقواها. هذه هي الإمكانية المودعة في الإنسان. ولكن هذا خلق الله، هذا هو الواقع الذي أمامنا لأن الإنسان يخرج من بطن أمه لا يعلم لغة يتكلم بها ولكن هذه القدرة الكامنة يحولها المجتمع إلى واقع فيقوم كل من المجتمع والفرد الذي يولد فيه كل منهم بدوره. فالمجتمع يمطر الفرد الذي يولد فيه باللغة التي تخص المجتمع، والفرد يتلقى ويمتص هذا بكل إمكاناته المودعة فيه
إن الأقنية الفضائية تتطور لإيصال المعلومات. ولأعطي للمعلومات معنى أكبر أقول “هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون”. لما يقول الله هذا يحدد معنى الإنسانية بكمية المعلومات التي يحصل عليها الإنسان، ونجد نفس المعني في “أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً”. وصار المجتمع هو الذي يقدم المعلومات للإنسان. لقد تطورت الأقنية الفضائية في إيصال المعلومة بسهولة ويسر وسرعة هائلة لجميع سكان الأرض وبقي تبسيط المعلومة وتوفير الأدوات للتلقي والإرسال. في مؤتمر القمة الإسلامي السابق، عام 2000، اتخذ الأعضاء قرار إنشاء محطة فضائية إسلامية وحصل نقاش على القنوات الفضائية الأخرى في جدوى هذا  القرار.
إن المدارس ضرورية، ولا بد من مدارس مهما كانت مستويات المناهج هابطة. لا بد من نقل المعلومات مهما كان فات أوانها، ومهما كان سيئاً، لأن قانون “الزبد يذهب وما ينفع الناس يمكث في الأرض” سيفرز النافع. ولولا هذا القانون لحصل اليأس عند الناس ولتقاعسوا عن بذل الجهود. وربما هذا الذي جعل جلال الدين الرومي يقول: ويحب الحق هاتيك الجهود | جهدك الخائب خير من قعود. ومن هنا كان للاجتهاد أجر وإن كان خاطئا، لأن الاجتهاد هو الذي يصحح الخطأ مهما تأخر. والزمن صار ويصير قصيراً بين التقنيات وتعميم استخدامها، لهذا فإن فتح المدارس وتهيئة كل وسائل إيصال المعلومة شيء سيؤدي إلى تحسين المناهج أيضا. إن المدارس لا تتمكن من نقل المعلومات الحديثة ولكن ليس معنى هذا أن نبطل المدارس أو الكتاب أو الأقنية الفضائية، وإنما أن نعمل على تحسينها.
التقنيات الجديدة تتمتع بها الطبقات المترفة في العالم أولاً ولكن في النهاية تصل إلى المسحوقين من الناس أيضاً، فكما المترفون يستخدمون التقنيات الجديدة لصالحهم وصالح طبقتهم كذلك حين تصل هذه التقنيات إلى المسحوقين سيستخدمونها لصالحهم أيضاً فيعم الخير بين الناس. هذا القانون ضروري فهمه جيداً حتى لا يحصل اليأس من التغيير لأن توفير المعلومات وإيصالها إلى الناس بشكل مبين وواضح هو واجب الأنبياء والمرسلين، وكذلك واجب الآمرين بالقسط من الناس. بعد انقطاع النبوات بقي الناس الذين يحملون رسالات الأنبياء من إشاعة القسط بين الناس وكانت حجة بعض اليائسين من الإصلاح أن هذه التقنيات لا تنقل إلا الخرافات والانغلاق، وكأن القراءة تستخدم ضد القراءة والعلم يستخدم ضد العلم. نعم ولكن الغلبة للحق وللعلم وللقراءة وللنافع الذي ينفع جميع الناس لا الذي ينفع بعض الناس.

اترك رد