أود أن أزعم بأن الإزعاج فن بحت وأن الإزعاج صناعة متطورة. كما أود أن أزعم أن الإزعاج أحد علوم هذا العصر وأحد ثمرات التكنولوجيا التي نشهد تطورها بشكل متسارع. وبمناسبة الحديث عن الإزعاج أريد أن أدعي أيضا أننا نحن أبناء يعرب هم من ابتكر هذا الفن وأننا نحن أحفاد المناذرة والغساسنة هم من طور هذا الفن إلى أن جعلناه علماً وصناعة متقدمة.
إن فن الإزعاج قائم على ظاهرة أسماها العرب الصوت ومنها جاء علم الصوتيات الذي هو علم عربي خالص. إن الصوت ظاهرة طبيعية أصلاً, متأصلة في كل شيء متحرك لكن العرب جعلوا من هذه الأصوات صناعة وتجارة وطقوساً لا تنتهي.
ويبدو أننا كأمه نكره الهدوء إلى حد كبير ونعشق الصوت بشكل لا حدود له. إنا نولد ونحن نصيح ونصرخ ونحن الذين ابتكرنا المثل الذي يمجد الصياح فقلنا في أدبياتنا “الديك الفصيح من البيضة يصيح”, فالفصاحة في مفهومنا هي رديف الصراخ. كما أننا أطلقنا اسم “صياّح” على العديد من أبنائنا وجاءت من هنا كنية أبو صياّح.
كما أننا نمارس “النقاش” على شكل صراخ ولا يحلو النقاش لدينا إن لم يكن صراخاً. وإن لم تصدقوا كلامي شاهدوا ما يسميه العرب ندوات على فضائياتهم. وإن أردتم أمثلة على الصراخ عليكم مشاهدة المسلسلات والأفلام العربية وراقبوا نوع الصراخ الممتزج بالردح. كما بإمكانكم مشاهدة المسرحيات التي تعتمد على الصراخ والتهويش في محاولات يائسة لجلب الضحك أو الابتسام لدى الجمهور.
وإن بقي لديكم شك في صحة ادعائي فإنني أدعوكم إلى حضور ما يسمى مهرجانات وهي ظواهر صوتية, وهذه المهرجانات التي تكثر في فصل الصيف تعلو فيها أصوات ما يسمى بمطربين والغريب أننا نطرب لها رغم أنها صراخ يقوم الميكرفون بتضخيمه إلى أن يصم الآذان. والغريب أننا ندفع من جيوبنا وحر مالنا نقوداً عزيزة لكي نزاحم الآخرين من بني جنسنا لما هو صراخ وضجيج ليس إلا.
وفي فصل الصيف تتفتق العقلية العربية عن إبداعات صوتية مثيرة. فنحن مبدعون حقاً لأننا نعشق الصوت. فمنذ طلوع الشمس تبدأ زوامير السيارات بكافة أشكالها وأنواعها. حتى أن سيارات بيع الغاز تبث موسيقى كلاسيكية جميلة تجوب الشوارع. فهل يوجد شعوب غيرنا تبيع الغاز على أنغام موزارت وبيتهوفن وغيره. فالعرب لا يحتاجون إلى سماع الموسيقى الكلاسيكية ولا إلى حضور سيمفونيات يدعي الغرب أنها تريح الأعصاب. إن لدينا موسيقى الغاز نوزعها مجاناً مع كل اسطوانة غازية.
وهناك من يعلن عن بيع الغاز من خلال موسيقى من نوع مختلف وذلك بواسطة طرق مفتاح الغاز على الاسطوانة, فتخرج أصوات خاصة. إنني أتحدى إن كانت شعوب أخرى سبقتنا إلى هذا الفن.
وما أن يمتد النهار حتى يأتيك الباعة المتجولون بأصنافهم المتعددة. فهذا يشتري الخردة والكراكيب والأثاث المستعمل ويعلن من خلال مكبرات الصوت بياناً يتبعه آخر مسجل على أشرطه لا تمل من التكرار. والغريب أن لا يتململ أحد ولا يحتج أحد, ولا يشتكي أحد, فهذا طبيعة الطقوس الصوتية التي نمجدها.
ويأتي من بعد ذلك بائع الخضار والفواكه يجوب الحارات ويعلن عن توفر البطيخ والملوخية والبندورة ويعلن أن البطيخ على السكين وأن البندورة حمراء وأن الملوخية خضراء تسر الناظرين.
وما إن يتهاوى صوت حتى يأتيك صوت آخر, ولا يخلو المكان من تلوث صوتي طيلة النهار ومعظم الليل.
فها هي الكمبريسة في كل مكان تناطح الصخر والزفت من اجل اختراقه بقوة وعلينا أن نستمع إلى زئيرها في كل شارع فها هي حرة تحفر بحثاً عن منهل خرب أو تمديدات مهترئة, وها هي مره أخرى تحفر الشوارع لتركيب أعمدة أو لإزالة شيء. بل إنني اضطررت إلى سماع الكمبريسة فوق السطوح في قاعات أحدى الجامعات وعلى مدى عام كامل والغريب أن أحداً لم يستغرب, فكل شيء بدا طبيعياً, فمن لا يحب الموسيقى بالكمبريسة, ومن يكره صوت الازميل والدريل يثقب أو يكسر لا فرق إن كان هناك بشر حولها أم لا.
وبالقرب من قاعات المحاضرات كان هناك موقف مجمع سيارات للطلبة, وبالطبع ساهمت هذه السيارات في إصدار سيمفونية لا كمثلها شيء. سيارات لها نقيق وفحيح ونباح مثل نباح الكلاب بالضبط وبنغمه مرتفعه, والغريب أن لا أحد يجد في ذلك مصدراً للإزعاج. فالأمر طبيعي جداً.
وفي الحديث عن السيارات نجد أن السائق العربي يخاطب سيارته قبل أن يصل إليها فتزعق مرحبة به وتضيء جوانبها فرحاً به, وعندما يقترب أحد الغرباء من المكان تنطلق حنجرة السيارة بصراخ عال للإعلان والتحذير من محاولة خطفها أو سرقتها.
ولقد نشأ عن علم الصراخ فرع جديد هو علم التزمير. فلقد طور العرب بعبقريتهم المشهود لها عالمياً لغة خاصة بالزامور وتفوقوا على كل الأمم. فالتزمير يكون من السائق لمناداة أفراد الأسرة أو الأولاد والبنات للإسراع في الركوب, والتزمير عند عودة السائق للإعلان لأفراد الأسرة وربة البيت أنه وصل بحفظ الله ورعايته وأن على ربة البيت أن ترسل أحد أفراد العائلة لمساعدة الأب في حمل الأغراض. وحين يبدأ العربي بالسواقة يمارس التزمير بمناسبة وبدون مناسبة. فهو يرسل مزاميره مدوية لمن هو أمامه ومن خلفه ومن هو في جانبه على الطريق يحذر من حوله انه هو ولا أحد غيره صاحب الحق في الشارع. يزمر قبل أن تفتح الإشارة الضوئية ويزمر لمن يريد أن يحاول الوقوف أمامه منذراً إياه, ويزمر لمن يبطئ في سيره على يمين الشارع. بل أنه يزمر إلى الفتيات اللواتي يقفن على يمين الشارع أو يسرن على الرصيف في محاولة للإعلان عن وجوده الرجولي.
في فنون التزمير يقوم العرب المعاصرون بالتعبير عن كل شيء ولا أدري إن كانت رفوف المكتبة العربية القديمة تحتوي على عناوين مثل “فنون التعبير من خلال التزمير”.
يسير العربي بسيارته محاولاً تخويف من أمامه صاحب السيارة الصغيرة وكأنك في بحر يخيف فيه السمك الكبير السمك السردين. فصاحب الشاحنة أو القلاب لا يتورع عن إصدار صوت مخيف من بوقه يجعلك تجفل من على بعد وربما ترتبك ومن المؤكد أن الذي اصدر الصوت المخيف يفرح ويستمتع لأنه أخافك وخاصة حين تنظر في المرآة الصغيرة وتشاهد حجم سيارته الضخمة الذي يرافقه مجموعة من الإضاءات التي تهدف إلى إرعابك وقذف الخوف إلى أعماقك.
في التزمير نعبر عن الانزعاج ونعبر عن الغضب ونعبر عن كافة مشاعرنا نحن العرب. من قال إننا لا نحسن التعبير. التعبير بواسطة الزامور أفصح من كل لغة. حين تتأخر الإشارة الضوئية في إعطاء الإذن لنا بالمرور نزمر بغضب, وحين يتأخر شرطي المرور في تنظيم الحركة تنطلق زواميرنا في معزوفة لا اغرب منها ولا أعجب ولا يهم أن يكون هناك منزعج.
وحين نريد شتم أحد من بني جلدتنا نشتمه أيضاً بالتزمير, فإذا تجاوز أحد عنا نشتمه بالزامور وإذا أردنا أن نسلم على أحد الأصدقاء نرسل له زاموراً خاصاً.
وربما نحن الوحيدون من دون البشر الذين قمنا بتطوير علم التزمير واستخداماته حتى أصبح علماً تطبيقياً فريداً. فهل توجد شعوب غيرنا تستخدم الزامور في مواكب الأعراس, وعلى طول الطريق من بيت العروس إلى صالة الاحتفال. لا يكاد ينقطع ذلك الصوت الرهيب. إنهم يعلنون عن الزواج وليعرف العالم أن العريس البطل سيسجل رقماً في سجل الأزواج ومن لا يعجبه فليضرب برأسه عرض الحائط.
وليست مواكب الأعراس وحدها صاحبة الامتياز في التزمير, بل إن نفس المعزوفة تنطلق كل ذات مساء وحتى قبيل منتصف الليل في مواكب الفائزين في مباراة رياضية عادية أو مهمة, ودية أو عدائية. وكأنهم يقولون نحن الموقعون أعلاه استطعنا إدخال تلك الجلدة المنفوخة بالهواء في ذلك المكان الضيق المحشور بين زاويتين من الحديد، إنها مهارة تستحق كل هذا الدوري المزعج ومن لا يهمه الأمر فليذهب إلى الجحيم.
فكيف إذن يمكن للفائزين والمشجعين التعبير عن فرحتهم في الحصول على كأس فضي أو ذهبي أو نحاسي لا فرق. ولا ننسى مواكب المحتفلين بالفوز بإحراز النصر في نتائج امتحانات الثانوية العامة, فلا بد من اعتلاء السيارات والتشحيط بدواليبها وإعلام الكون بأن حمودة حصل على مجموع يؤهله للدخول إلى جامعة أهلية أو رسمية لا فرق. المهم أن يفرح حمودة وتفرح معه جموع المؤازرين ولا بد من طقوس التزمير.
وها هي مواكب الفائزين في انتخابات عامة لرئاسة بلدية أو عضوية مجلس هنا أو هناك, فكيف بالله عليكم نعبر عن إحراز هذه الانتصارات؟ ألا تستحق كل هذه الأصوات؟
ويرافق التزمير أو يتبعها طقوس صوتية أخرى ارتأى أحفاد الأنباط تطويرها, فقاموا باستيراد الألعاب النارية أو المفرقعات الصوتية الضوئية. يرسلونها إلى الفضاء في أشكال جميلة لكنها مصحوبة بأصوات مخيفه تقود العديد من الأطفال إلى الاختباء تحت الطاولة أو في أحضان أمهاتهم. إنها المفرقعات إذن. وأظن أن العرب هم الذين سبقوا العالم في استعمالها, بدليل أن هناك فعل في اللغة العربية هو “فرقع” والفرقعة هي صوت انفجار قد يكون مرتبط بالفعل “فقع”. لكن المهم أننا نعشق المفرقعات ونشتريها بأي ثمن من اجل التعبير عن احتفالاتنا. ومن لا يجد مفرقعات يمكن له بسهولة اللجوء إلى الرصاص الحي والمباشر يطلق النار في الفضاء غير آبه بقانون وغير مكترث لمنزعج. فلا بد من التعبير.
وها هي مكبرات الصوت في كل مكان باستثناء قاعات المحاضرات. تضخيم الصوت غدا فناً عربياً بامتياز. فعلى أسطح البنايات مكبرات للصوت وعلى سقوف السيارات مكبرات للصوت والكل يعلن من خلالها عن وجوده معتقداً أنه صاحب الحق, وأن على الآخرين الاستماع.
باختصار, إننا في زمان الصوت, نعيش تلوثاً لا يرحم. إنه الضجيج, إنه الإزعاج نمارسه في طقوسنا اليومية, فهل نحلم بزمن تكون فيه قوانين رادعة لمنع الإزعاج العام؟ وهل سنصل إلى درجة من الرقي والحضارة نعبر فيها عن مشاعرنا بطرق بديلة فيها الذوق والإيثار والاحترام المتبادل؟ نأمل ذلك.
http://www.diwanalarab.com/spip.php?article11036