اللغة التي اكتب بها, اللغة العربية , لغة عظيمة , ذات قدرات وامكانات هائله, لكن اللغويين فرضوا عليها احتكارا رهيبا ,واقفلوا عليها الابواب ,ومنعوها من الاختلاط والخروج الى الشارع ,كانت اللغة املاك خصوصية , واللغويون جمعية منتفعين , وكانت الفتوى بشرعية الكلمة أو نعريب مصطلح علمي أو تقني تستغرق المجامع العلمية الثلاثه سنوات من التنجيم والاستمارات والاستخارات ,والالوف من كؤوس الشاي ومحلول البابونج.

الى جانب هذه اللغة المتعجرفة التي لم تكن تسمح لاحد ان يرفع الكلفة معها , كانت اللغة العامية تقف على الطرف الآخر نشيطة متحركة ,مشتبكة بأعصاب الناس وتفاصيل حياتهم اليومية .

بين هاتين اللغتين كانت الجسور مقوعة تماما,لا هذه تتنازل عن كبيريائها لتلك, ولا تلك تجرؤ على طرق باب الاولى والدخول في حوار معها, من هناكنا نشعر بغربة لغوية عجيبة , بين لغة نتكلمها في البيت والشارع والمقهى ,ولغت نكتب بها فروضنا المدرسية ونستمع لها في محاضرات اساتذتنا ونقدم بها امتحاناتنا , فالعربي يقرأ ويكتب ويؤلف ويحاضر بلغة , ويغني ويروي النكات ويتشاجر ويداعب اطفاله ويتغزل بعيني حبيبته بلغة ثانية .

هذه الازدواجية اللغوية التي لم تكن تعانيها بقية اللغات , كانت تشطر افكارنا وأحاسيسنا وحياتنا نصفين , لذلك كان لا بد من فعل شيء لانهاء حالة الغربة التي كنا نعانيها , كان الحل هو اعتماد لغة ثالثة, تاخذ من الاكاديمية منطقها وحكمتها ورصانتها , ومن اللغة العامية حرارتها وشجاعتها ومنتوجاتها الجريئة , بهذه اللغة بالذات نكتب نحن اليوم ,وعلى هذه اللغة الثالثة يعتمد الشعر العربي الحديث في التعبير عن نفسه دون ان يكون خارجا عن التاريخ , ولا سجينا في زنزانته .

نزار قباني

اترك رد