بقلم: إدوارد هوجلاند,           ترجمة: جعفر جميل أبو ناصر

 

عندما أتعرض للتفتيش في المطارات، أتساءل أحيانا عما قد يحدث لو كان بالإمكان قراءة الأفكار، لا لأن أفكاري تدور حول تدمير الطائرة، بل لأنه تخطر ببالي أفكار غير قانونية كلما رأيت صورة الرئيس على شاشة التلفزيون. فاختلاف الرأي، بدرجاته المتفاوتة، مثير للجد، ولا يكسب صاحبه شعبية واسعة.

فلو حصل أنك انتقدت العبودية مثلا، أو توظيف الأطفال، أو دافعت عن حقوق المرأة في التصويت في مكان أو زمان غير مناسب، لتعرضت للسجن، وستكون محظوظاً لو وقف الأمر عند هذا. ولقد مررت بمدن في ولاية لويزيانا في فترة كان من الممكن أن أتعرض فيها للضرب المبرح لو أنني انتقدت الفصل العنصري، وقد كانت لوحة سيارتي الصادرة في ولاية فيرمونت (حيث التعصب العرقي أقل بكثير من الجنوب) تكفي حتى أتعرض للتهديد، حيث كان يطلب السكان مني الخروج من ولايتهم قبل مغيب الشمس. وكذلك تسببت حرب فيتنام في انقسام المجتمع، ولكن بشكل اقل حدة، حيث تمكنت من الاحتجاج عليها قانونياً، ودون التعرض للخطر، ولكنني أشعر بالخجل عندما أنظر إلى الماضي وأنا في السبعين من عمري، وأكتشف بأنني لم أتعرض للسجن ولو مرة واحدة في سبيل قضية ضمير. هنالك العديد من الأشخاص الذين أحترمهم، مثل جورد واشنطن وتوماس جيفرسون وعدد لا يحصى من الآخرين، عرضوا أنفسهم لخطر أكثر مني. ولا أعتقد أن زماننا يخلو من القضايا التي تستحق العصيان، أو حتى أن القضايا الراهنة أقل خطورة من سابقاتها. ففي جميع الأماكن التي زرتها وجدت أن نسبة هائلة من الطبيعة تتعرض للتدمير. وسيكون هذا التدمير أبدياً غير قابل للإصلاح. لكن هل كان خوفي من التعرض للحبس كافياً ليسكتني عن ذلك؟ يبدو أن هذا هو الحال. فالشرطة يقومون باعتقال أي كان إذا صدر لهم أمر بذلك، ولا يكترثون بالقضايا التي يناضل من أجلها هؤلاء. فمنظر المتظاهرين سخيف على أي حال، يحملون اليافطات ويهتفون الشعارات قبل أن يجروا إلى سيارات الشرطة. نقول لهم بأن ((يدلو بآرائهم في صناديق الاقتراع))، وكأن هذه الأقلية الحالمة لن تكون أقلية في صناديق الاقتراع.

أعدم ((وليام تينديل)) حرقا على الصليب عام 1536، لأن ترجم أجزاء أساسية من نسخة الملك جيمس من الإنجيل، بهدف تمكين عامة الشعب من قراءته باللغة الإنجليزية، هل كانت تلك عقوبة قاسية؟ هكذا اعتقد جيمس عندما تسلم الحكم عام 1603،More… ولكن في عهد هنري الثامن لم يكن بإمكان البريطانيين أو الكاثوليكيين في أوروبا الاعتراض، ناهيك عن النبلاء الذي أثار سخطهم الشديد لكفره ووقاحته، مثل ((سير توماس مور)) (وهو نفسه تعرض للإعدام لاحقاً بقطع رأسه لاعتراضه على موضوع آخر تماماً). يمكن أن يكون الاحتجاج موضوعاً خطيراً للغاية. وإذا لم يكن جدلياً ومزعجاً ولو بعض الشيء، لما أمكن اعتباره تمرداً حقيقياً في الرأي. مرت 46 سنة قبل اعتذار أمريكا عام 1988 عن قيامها باحتجاز 80 ألف أمريكي من أصل ياباني في معسكرات اعتقال أثناء الحرب العالمية الثانية، وتخيلوا الاستقبال الذي كان سيلقاه متمرد متقشف اقترح الإفراج عنهم أو الاعتذار لهم في البار المحلي الذي يرتاده. فالذين كانوا يعترضون أيام شبابي على أمور الفساد أسميناهم ((واشين))، واعتبرنا الإصلاحيين من سريعي الغضب الذين اهتموا بمصلحة الغرباء أكثر مما اهتموا بعائلاتهم. فقد كان الناس يستخدمون الدهان المليء بالرصاص، ويعزلون بيوتهم بمادة ((الإسبتست)) ويدخنون بعد ممارسة الجنس، ويشربون كأساً أخيرة من الخمر ((من أجل الرحلة)) قبل مغادرة الرحلات. كان الشذوذ الجنسي جريمة، والأقليات مثل البولنديين لم تكن تفكر بهم إلا إذا كنت أحدهم، أو كان أحد أفراد عائلتك متزوجاً من أحدهم. أما بالنسبة ((للملونين)) فكنا نعتبره عملاً لطيفاً أن تناديهم بذلك المصطلح المؤدب، لكن الاعتراض على طريقة معاملتهم كان عملاً فيه حماقة. ولمجرد أنني انتقدت اللاسامية (وعلى الرغم من أن معظم اليهود من البيض) اعتبرت شيوعياً من قبل زملائي في الجامعة، حتى إن والدي حرمني من جزء من إرثه، خشية أن أتمرد على ميثاق حارتنا، وأبيع منزله لشخص يهودي، حيث إن علماً كهذا كان سيتسبب في هبوط حاد في قيمة منازل أصدقائه.

التعرض للجلد علناً، والوسم على الجبين، وقطع الرؤوس، والإعدام، تصورواً الاحتقار الذي تعرض له من انتقد هذه العادات قبل الأوان؟ هل اعتقد ذوو القلوب النازفة (مصطلح يوصف به الذين يتعاطفون مع الفئات الأقل حظاً، لكن الكاتب قصد ((الذين لا يهتمون بالآخرين))، أي الذين عجزت قلوبهم عن التعاطف مع الآخرين ـ المترجم) (وأعترف بأن هذا المصطلح ينطوي على مفارقة تاريخية)، بأنهم يحتكرون الحقيقة والفضيلة؟ العبودية ذكرت في الإنجيل فهل يجوز انتقادها؟ وكذلك تشغيل الأطفال، أليس عملاً طبيعياً؟ والذين يطالبون أيامنا هذه بحقوق الحيوانات لا بد أن عدم قدرة هؤلاء على التكيف مع محيطهم هو الذي تسبب في انزعاجهم. كنت أسأل ((لماذا يقال عن المهاجرين المكسيكيين بأن أجسامهم مبلولة))؟ والرد ((لأنهم أتو إلى أمريكا بطريقة غير قانونية بعد أن قطعوا نهر ريوغراند سباحة)). و((لماذا نعتبر الشواذ جنسياً لواطا؟))، فيقولون لي ((لأنهم لواط أيها الغبي؟)) أما عندما سألت ((لماذا ننادي السود بالنيغر Niggers؟))، كان جوابهم ((هذه الكلمة اختصار لكلمة نيجرو Negro أي زنجي، فهو لقب فحسب)). و((ماذا بالنسبة للرجال الصينيين Chinamen؟))، وردهم ((لأنهم من الصين)). وتساءلت ((لماذا لا يأكل الرجال السود في المطاعم نفسها التي نرتادها نحن؟ فيقولون للي ((لأنهم بالتأكيد يفضلون تناول الطعام مع من هم مثلهم، حتى لا يتعرضوا للإحراج عندما يمضغون بأفواه مفتوحة، وعندما يسقطون الملاحق والشوك على الأرض، وعندما يضحكون بصوت مرتفع، وعندما يخطئون بقواعد اللغة خلال حديثهم، فهذا أكثر لطفاً منا، لأن مشاهدنا لهم تسبب لهم حرجاً)).

هذه القضايا قديمة؛ لكن عندما عدت مؤخراً من السودان، وكتبت عن المجاعة في إفريقيا، تساءل كثيرون عن السبب الذي دفعني للذهاب إلى هناك ومشاهدة المجاعة عن قرب. ولم يسأل أحدهم بصراحة عما إذا كانت هنالك نزعة غولية سرية في نفسي، ولو أنهم قصدوا ذلك، لأن سؤالا كهذا لن يكون مؤدبا، ففي مجتمع كبير ومزدهر ومنغلق على نفسه مثل أمريكا، ما الذي يمكن أن يدفعك لاختبار مثل هذه الأمور في مصدرها؟ بإمكانك أن تحرر شيكاً لجمعية أوكسفام الخيرية، وأن تصوّت لصالح مرشح للكونغرس يمتلك جواز سفر حقيقياً، فلماذا تشغل نفسك ـ وتحيط نفسك ـ بمعاناة الآخرين مع أنه لا يمكنك فعل شيء؟ ((امض قدماً في عملك)) بحيث تتجنب الجمود وإصدار الأحكام القيمية حول كل مشكلة، هذا شعار اليوم، مثل استخدام أدوية تحسين المزاج، والعلاج بالوساطة.

أما الخلاف في الرأي، وكون أنه يسبب الإزعاج، فهو أحياناً يحمل سمات الاستقامة والأمانة. وبجداله مع الرأي السائد، لا يكون الخلاف في مصلحة صاحبه، والذي قد يقال عنه إنه غير وطني، ومعاد للدين، وعدواني، وغريب الأطوار ومجنون غير وفي وغير منطقي، أو مهووس ومتكبر، أو عاطفي ومتهور. وكثيراً ما يتمتع الآخرون بمهاجمة الأهداف الثابتة، وإذا اتخذت موقفاً يتعارض مع مواقف الأغلبية، ستصبح ذلك الهدف. ففي المظاهرات الجريئة والغريبة، تكسر الرؤوس وتطلق الرصاصات باتجاه المتظاهرين ـ مع وجود مريب لرجال الأمن وجمهور غير مشارك وساخر من المتظاهرين ـ الآملين في الحصول على حق التفاوض الجماعي أو قانون حقوق التصويت.

وهؤلاء الناشطون غالباً ذوو شخصيات غير لطيفة، ومن الصعب التوصل إلى حل وسط معهم ـ وأعتقد أن مشاكل القرن المقبل ستكون أكثر سخونة من ذي قبل. وبذلك يمكن أن يسبب لك الخلاف دواراً في الرأس ـ مع أن العكس هو المتوقع، لأن التحول إلى المعاملات الرقمية الإلكترونية كان من المفترض أن ينظم النزاهة المالية ويضمن الدعم المالي للأطفال الذين طلقت أمهاتهم، ويصون حقوق المعاقين وما شابه ذلك، إلا أنه لا يقف عند هذا الحد، بل يقوم بكل المهام التي كنا ننجزها في السابق بكلمة شرف أو مصافحة فقط، لن نحتاج إلى اختبار قدرة الإنسان الذي تتعامل معه على النظر إليك مباشرة، للتأكد ما إذا كان نزيهاً أم لا. ولذلك لن نحتاج من الآن فصاعداً إلى أن نستجوب شخصاً حالماً، مثل ((جون أوف أرك Joan of Arc)) وهي امرأة مقاتلة بزي رجل اعدمت حرقاً عندما كشف أمرها، أو التحقيق معها بالدقة المتناهية من أجل إدانتها، فما علينا سوى إعادة برمجتها.

كنا، نحن الأمريكيين، في بداية الأمر شعباً ثورياً في الدين والسياسة ـ غير متكيفين مع مجتمع أوروبا أو مغامرين متواضعين ـ وعبرنا البحار الشاسعة أملاً في الوصول إلى مكان وحياة مختلفين. فالتصويت بأقدامنا واحتجاجنا على الظلم عبر مغادرتنا أوربة كان في الأساس تمرداً وكانت ديمقراطيتنا خشنة غير منضبطة منذ البداية، الصياد في مواجهة المزارع، وسكان الجبال الرعاة ضد سكان السهول المتحضرين، أبناء المزارع مقابل أبناء المدن. كان على الجيل الأول من المهاجرين دفع ثمن باهظ قبل أن يستطيع الجيل اللاحق أن يعيش حياة سهلة ميسورة، وأنا كنت أعرف امرأة قبل خمسين عاماً، أطلقت على سيارات ((الكاديلاك)) اسم ((سيارات مورفي)) لأن عدداً كبيراً من الأيرلنديين كانوا يشترونها، ومورفي اسم شائع يطلق على الأيرلنديين أو البطاطا التي يستهلكها الأيرلنديون بكثرة دلالة على الفقر، ولذلك فضلت هذه السيدة وغيرها اقتناء سيارات من نوع ((لنكولن)) حتى تتميز عنهم.

ولكن، لماذا قام أشخاص أغنياء من ملاك الأراضي مثل جورج واشنطن وجيفرسون ـ وكانوا قد وصلوا إلى طبقة النبلاء في العالم الجديد ـ بمشاحنة وقتال السلطات القائمة في زمنهم؟ فرانكلين روزفلت اعتبر ((خائناً لطبقته))، ولكنه لم يقدم أياً من أمواله للفقراء، مثله في ذلك مثل جون كيندي، وهو رئيس ليبرالي آخر أتى بعده، كما أن واشنطن وجيفرسون لم يحررا عبيدهما خلال حياتهما. فلو كانا ثوريين إلى هذا الحد لما تمكنا من النجاح في الانتخابات (وبالمناسبة، أنا أستغرب كثيرا من الذين يفاجأوا عندما يكتشفون أن شخصا مثل توماس جيفرسون ـ والمعروف بإنسانيته ـ كان على علاقة غرامية طويلة الأمد مع إحدى عبداته، لأنني أعتقد أنها ستكون مفاجأة أكبر لو أن شخصا كهذا قام بتجاهل مشاعره تجاهها بسبب لون بشرتها). حقيقة، أين الجاذبية في الدين المسيحي، والذي ولد في ظل الاضطهاد والتمرد، وعارض الغنى والسلطة، وولد مرة أخرى في البروتستانتية التنقيحية، كما ولد مؤخرا في الأصولية العمالية؟ ومع أن أغلبنا لا يرغب في الخلاف مع دوائر السلطة الأكثر قوة، أو تحدي الظلمات التي لم تقع علينا، إلا أن المشاكسة تبقى ممارسة أو نزوة يقوم بها أغلبنا، على الأقل يوم شيخوختنا، لتحقيق احترام الذات وللوصول إلى الانسجام. فنحن جميعا نقوم بالتقليل من شأن المظالم والتجاوزات التي نشهدها، من ارتفاع أسعار أدوية كبار السن إلى سوء معاملة العرب الأمريكيين في الوقت الحاضر. ونعلم أنه ما زال بإمكاننا التظاهر في باحة البيت الأبيض (وأنا شخصيا حصل أن أشرت للأسفل بإبهامي تجاه ((سبيرو اغنيو Spiro Agnew )) وهو في موكب يحتفل بفوزه بمنصب نائب رئيس الجمهورية عام 1969م، في إشارة لمعارضته، ورأيته يحملق بي). ولكنه عمل متعب ومحفوف بالمخاطر في فترة مضطربة كالآن، فقد تعاقب بالسجن، ولذلك نحتاج إلى كم كبير من الفظائع حتى نتخطى حذرنا وخمولنا. لكن إيقاع النشرات الإخبارية يقوم بالتخلص من نوبات غضبنا حال تبلورها، ويجعل بذلك الحصول على كتلة حرجة من الاحتجاج أمرا صعب المنال. فرئيس الجمهورية المنتخب بطريقة مشكوكة، والمدعي العام المخيف، ووزير الدفاع المحنك، كلهم مستفيدون من ضجيج التجديد، مع أن الشكوك تراود الجميع في اليمين واليسار. فالأمور لا تسير على ما يرام، وغدت الوطنية آخر ملجأ لا للأنذال فحسب، بل للفوضى بحد ذاتها.

أصبحت فقاعة السلطة محيرة لدرجة أننا لا نعلم أين هي: المحكمة العليا، آلية التصويت، كاتب النص الإخباري، غرفة الاجتماعات العسكرية، أم ديك تشيني؟ ولا يبدو أن إبداعاتنا الإلكترونية تسهل معاملاتنا اليومية، بل على العكس، فهي تقوم بتصعيب مهامنا وتعطيل عملنا. كيف يمكن للمرء أن يبدي اختلافاً في الرأي في خضم هذه الفوضى؟ كيف يمكن لنا أن نميز شخصاً مثل توم باين من آخر مجنون، وأن نفرق بين آخر مثل جون أوف آرك ورجل متخف بزي امرأة يلقي خطبه الرنانة عند ناصية الشارع؟ هل عليها أن تنضم إلى القوات المسلحة الأمريكية، وأن يظهر توم باين على برنامج ((ستون دقيقة))؟ هذا ليس سؤالا سخيفا. استطاع ((ثيودور كازنيسكي))، الإرهابي، أن يسمع الآخرين صوته بشكل مقتضب، وبفعالية لا نريدها. وقد أدى نوع مختلف من حب السلطة إلى إسكات خيرة المتكلمين، مثل بيلي غراهام. تابعت أقوال غراهام ومارتن لوثر كنغ في فترة أوجها (غراهام في الخمسينيات، وكنغ في الستينيات). ولم يتميزا عن بعضهما بقوة العاطفة أو الكاريزما أو المهارات الخطابية، بل تميز كينغ بمدى عاطفي واسع وبنقاط ارتكاز مرجعية، وباختصار، بما يقول. أما غراهام ، فلم ينطق بأي كلام قد يثير غضب رئيس الجمهورية في كرسي الحكم، ناهيك عن تعريض نفسه لخطر الاغتيال. كانت عباراته سلسة، كمسيرة فريق كرة قدم نحو الهدف.وتكلم بأسلوب جامد لينبهك للتوقف عن خيانة زوجتك، وليحصنك ضد كل الاحتمالات الضارة، ولتغادر ملعب كرة القدم وأنت مستعد لمواجه برودة الجو. فلم يكونا استهزائيين أو قاسيين في كلامهما مثلما هو حال جيري فالويل – والذي حضرت خطاباته أيضاً ، وفي قمته الاستهزائية، في عقد الثمانينات، سواء في مسقط رأسه في فرجينيا أو في أبعد الأماكن من ألاسكا. بل كان كلام غراهام عاطفياً وسطياً، مثل قسيس معجب بإزنهاور أو نيكسون أو من هم في حراك اجتماعي لمراكز أعلى. أما كنغ ، فقد اعتبر أن الحياة أكثر تعقيداً وأنها ليست دائماً بهيجة وبسيطة، وقد تبدو في بعض الأحيان كالأحجية. بينما فالويل، وبصفته أكثر قربا للسلطة، كان يبدو إما مخموراً أو مرهقاً من السفر عندما أخذ يرشدنا حول كيفية التعامل مع زوجاتنا كثيرات الشكوى، وأخبرنا بأنه يسمح لزوجته بفعل ما تشاء في المنزل، لأن العالم خارج المنزل هو عالم الرجال.

الخلاف في الرأي يشبه إلى حد ما تصرف أحد القديسين بفظاظة في المعبد، ويشمل المشي على طريق الآلام في ظل حكم العصابات والديكتاتوريات، وطريق الآلام هو الذي قطعه المسيح وهو يحمل الصليب من بيت لحم إلى القدس ليتم صلبه هناك، هذا الطريق جداولي ومواجهاتي، ونادراً ما يكون طريقا يؤدي إلى الحصول على ترقية في المهنة، يعتقد الوسطيون بان أولويات هؤلاء معكوسة ويضيعون جهدهم هباء ويتباهون بحسن نيتهم وأنهم يروحون عن أنفسهم بسبب معاناتهم من مشاكل في الشخصية كما كان يفعل العديد من المشاكسين المتمردين الذين عرفتهم . الاستقامة في العديد من المجتمعات تعد قريبة جدا من ذلك، فهي موضوع حساس وشائك فالإرهاب جعل كل شخص غريب الاطوار عرضة للشبهة عند بوابات المطار وفي أماكن أخرى تزداد اتساعاً يوماً بعد يوم والاحتقار الذي أبداه جماعة الهبيز أيام الستينات ذهب أدراج الرياح وكذلك السخرية تجاه آباء السبعينيات والصور المتحركة لأطفالهم وكذلك ما حصل في الثمانينيات من نبذ المثالية بكل ألوانها .فنحن الآن نرفع الأعلام ونلوح بها ولكن ما هو التأثير الاجتماعي لذلك ؟ بحوزتنا كم هائل من المعلومات، لكننا نعاني من دوار للنقص في معايير السلوك. فقواعد السلوك الرأسمالية والصداقة والدين: كلها أصبحت مؤقتة، ظرفية واختيارية، لدرجة أن كلمة معيار أو قاعدة سلوك قد تسبب ظلماً أو تجنياً على البعض. لقد انتزع مجالنا المغناطيسي والجاذبية نفسها تبدو ضعيفة، لكن انعدام الوزن ليس أمراً صحياً.

خذ معايير الولاء على سبيل المثال ـ هل تساءلت عن ذلك الطفل الذي كان يكبرك بقليل، والذي اتخذك صديقاً أيام طفولتك ودافع عنك أمام المستأسدين عليك في المدرسة؟ هل لديك أي فكرة عما حدث له؟ والمسؤول عنك في وظيفتك الأولى الذي كان نافذ البصيرة ولطيفاً معك ـ هل مازال على قيد الحياة؟ تدور الحياة في أمريكا حول مبدأ التسلق، ويعني ذلك أنك دائماً تترك وراءك أناساً تنسى أمرهم، وتترك لمحاميك مهمة تولي نفقة زوجتك المطلقة ووصايا الأموات وصكوك نقل الملكيات العقارية. تبدو طبيعة الولاء أصلا كقضية ساكنة غير متحركة: مثل النكتة التي تقول إنك لو أردت الحصول على صديق في واشنطن فما عليك سوى شراء كلب أليف. أبناؤك هم ذريتك، وقد تكون محظوظاً بوجود شريك لك في الحياة، لكن هل أنت مستعد للتضحية في سبيل أحد غيرهم؟ هذا الفصل التام مذهل تاريخياً وإنسانياً، فالروابط بيننا أصبحت ضعيفة. ففي أيام العنصرية السوداء، لم يصافح الشخص أياً كان، فالمصافحة بالأيدي كانت تدل على مضمون ما. يشبه ذلك ما كان يعرف باسم ((وضعية المبشر)) في المعاشرة الجنسية ـ فقد تعرضت للاستهزاء مؤخراً، لكننا لن ننسى أمرها في المستقبل القريب، كما هو حال مصافحة الأيدي. هنالك شخص أعرفه في مكان عملي يشبه ((أورايا هيب Uriah Heep)) لكن هل من الممكن أن أتعرف عليه لو صادفته عبر صفحات الإنترنت؟ لا أعتقد ذلك، فعليك أن تتابع مشيته المنحنية إلى الأمام حتى تميزه، ولن يظهر ذلك عبر الصفحات الإلكترونية.

أنا أنتمي لليمين واليسار والوسط في آن واحد، لأنني من أتباع المذهب الطبيعي، ولذا فأنا راديكالي سياسياً لكنني محافظ اجتماعياً، مثل الكثيرين من زمن ثورو، وكون أنني ترعرعت في أوساط السلطة، حيث أن والدي كان محامياً، فقد توصلت إلى قناعة بأن السلطة ليست سيئة بالمطلق، حتى أنني شاركت في كتابة المقالات الافتتاحية لجريدة ((نيويورك تايمز)) بين فترة رئاسة ((هال بورلند)) و((فيرلين كليكويبورغ)) وكان هذا يعني حضوراً اجتماعات لجنة تحرير الجريدة إذا أردت. كانت هذه الاجتماعات مليئة بالمشاجرات، وتوقفت عن الحضور بعد مدة، لأنني أعاني من مشكلة في النطق ولا أستمتع بالنزاعات الكلامية، ولو أنني أحببت ماكس فرانكلين ونائبه جاك روزنزال، اللذين ترأسا الاجتماعات ثلاث مرات أسبوعياً وجلسا على طرفي الطاولة الطويلة واللامعة. كانا حليفين في عملهما وجارين في ((ريفردايل)) ويأتيان معاً إلى العمل يومياً في سيارة الليموزين التابعة للشركة. وعلى الرغم من أنهما يشتعلان طموحاً (فقد اشرف جاك في صفحة التحرير بعد ماكس، عندما ترقى الأخير للإشراف على بقية الجريدة)إلا أنهما كانا أكثر لطفاً من بقية طاقم الجريدة. صحيح أنني تعرضت لاختبارات صعبة حتى حصلت على وظيفة عندهم، لكنني لم اشهد أحدا منهما يعامل الآخرين بفظاظة. وجاك أفضل محرر تعاملت معه على الإطلاق.

لم تناقش مقالات الجريدة في هذه الاجتماعات، بل كانت تتخذ القرارات الإدارية فيها، بالإضافة إلى إبرام الاتفاقيات الشفهية. فالمواضيع الشائعة، مثل العمال والعمل والحكومة المحلية والفيدرالية والكونغرس والسياسة الخارجية والأمور الثقافية والقضائية، كلها كان لها اختصاصيوها، لكن أحداً لم يستطع الكتابة في موضوع تخصصه إلا بعد الحصول على موافقة عامة، أو على الأقل وساطة جاك أو ماكس عند تجهيز الجريدة للطباعة. وكان بإمكان الخصوم متابعة ما يحدث عن قرب، دارت النقاشات حول طبيعة وحدة موقف الجريدة من القضايا العامة، حتى يكون الموقف ذا تأثير وطني واسع. لم يكن بيننا أحد من السود أو اللاتينيين أو الآسيويين أو الشواذ جنسياً، وكان التركيز على مواضيع مثل ((العمال))، على سبيل المثال، ينطوي على مفارقة تاريخية، لو أخذنا بعين الاعتبار خطر تفاقم مشكلة التشرد وانعدام الرعاية الصحية والضمان الاجتماعي، والذي كان أكبر من نشاد أي نقابة أو إضراب كان. لم ننشر في ذلك الوقت أية مقالات بيئية. كانت وظيفتي أن أكتب بإعجاب عن الطبيعة في الربيع ـ وعلى شكل نشوات بسيطة ـ لا أن أناضل في سبيل بقائها العالمي، فقد كان هذا التطور متروكاً لمستقبل التايمز، كما تأجل الاعتراض على العنصرية العرقية إلى حين ظهور رجال بيض ليبراليين اتخذوا مواقف محترمة منها. (حتى جاك روزنيثال نفسه ذهب ذات ليلة ليسمع خطاب جيسي جاكسون في نيويورك، قبل ان يعتبر عمل كهذا ضرورياً).

ومع ذلك كان لدينا عام 1979، عدد من النساء الناشطات في سبيل حقوق المرأة. كانت هذه القضية من القضايا الجديدة الوسطية، فلم تكن معقدة، بل سهلة الهضم. فبالإضافة إلى ناقدة الهندسة المعمارية البارزة آدا لويس هكستابل والتي كانت امرأة مثقفة حازمة وأنيقة إلى أقصى الحدود، جلست بجانب ماكس أو جاك في الاجتماعات، وكأنها فوق الجدال والمواضيع الخلافية، وتعلم ما سيستقر عليه الأمر ـ بالإضافة إليها كان لدينا بعض المتحمسات، مثل سوما جولدن المشاكسة، والتي كانت مهووسة بالاقتصاد واقتربت شيئاً فشيئاً من مواقف تحرير المرأة الأكثر وضوحاً. جلس الحلفاء معاً حول مائدة الاجتماعات، وعلي أن أعترف أنني جلست بادئ الأمر إلى جانب الرجال ذوي الشعر الأبيض والرؤوس الصلعاء، وعلى الطرف المقابل لسوما وماري كانتيل، والتي تحولت إلى كتابة المذكرات بعد ذلك بمدة. كنت أؤيد التطلعات التقدمية في السياسة، لكنني اتخذت مواقف أكثر محافظة مما يجب في الشؤون الاجتماعية، في زمن كانت فيه قضية المرأة، على حد قول إيمرسون (مشرفة لهذا العصر).

لم يطلع أي منا على النقاشات التي دارت بين ماكس وجاك وناشرهم سولز بيرغر، الملقب بـ الملاكم، لكن جاك احتفظ بمجسم من الالومنيوم في مكتبه، على شكل بهلوانيين يتأرجحان على طرفي عمود أفقي في وضع متزن، لتذكره دائمأً بطبيعة عمله، والذي جعله يتلقى مكالمات هاتفية من سماسرة السلطة، الغاضبين أو الممتنين أو المراوغين صباحاً، ثم يغلق هاتفه عصراً عندما يبدأ بالعمل على صفحة التحرير لجريدة اليوم المقبل. كان يغير لباسه من بدلة فاتحة اللون إلى أخرى داكنة في اليوم الذي يلي عيد العمال من كل عام، وبغض النظر عن حرارة الجو، لم تكن جريدة التايمز مثل دفة السفينة العمودية، بل كانت كالعارضة الرئيسية الأفقية في السفينة فالعارضة نحتاجها قبل الدفة (العارضة للتوازن والدفة للتوجيه)، ومع ذلك، تحتاج كل سفية بين الفينة والأخرى إلى تغيير وجهتها، وكنا نقوم بتوجيه دفة السفينة بطرق متباينة ومترددة في آن واحد. ازداد ميل الموظفين في الطابق العاشر، كلما تقدموا في العمر نحو البقاء مع الجريدة، فهم من المدمنين على عملهم، وقد عمروا مع هذه المؤسسة، وهم صحفيون خبراء وكانوا يوزعون حكمتهم التقليدية ويدونونها ويدعمونها، وفي عبارات حيوية قد الإمكان، مع تعديلات بسيطة كلما لزم الأمر. يتساءلون: هل يمكن أن نقول هذا؟ متى سيكون بإمكاننا قول مثل هذا؟ أي أنهم كانوا يحاولون تخفيف الصدمة إن أمكن. لم تكن هنالك فرصة لتعديل المسار الوسطي المثالي؛ ودارت الصراعات بين أفراد تمركزوا بطريقة آمنة في وسط النهار، ولم يتركوا المجال لغيرهم للوصول إلى مقر القيادة. حتى ماكس نفسه، كرئيس مكتب واشنطن، تفوق عليه صحفيان من الواشنطن بوست، هما وودورد وبيزنستين، في قضية (وترغيت) لأنه تلقى تعليمات من كيسنجر نفسه بالتزام الصمت حيال الموضوع، كما أنه كان متردداً في تصديق الأمور السلبية التي تخص المسؤولين الكبار وهي خلفية مثالية لوظيفة كاتب، والتي سينظر إلى ما كتبه بعد عقد من الزمان لتكتشف هزالته، وبعد ليكتشف خلوه من المضمون. تغير ((عرابوا)) التايمز من ((أيب روزينثال)) المريع والذي لا تربطه صلة قرابة بجاك،، إلى ماكس عندما ترقى وحصل على المنصب الأعلى في المؤسسة، ومن ثم إلى شخص طيب النفس يهتم بالقضايا الإفريقية اسمه جو ليليفيلد، ثم إل هوبل رانيز، قبل أن يعود ليليفيلد لتسلم قيادة الأمور مرة أخرى، وعلى الرغم من كل هذه التغييرات كان بإمكان أي صحفي عادة أن ينقل إلى دائرة أخرى، أو أن ترفض مقالاته ويمنع نشرها، إلى أن يغير مواقفه من تلقاء نفسه ودون ضرورة فصله، إذا لم تكن تغطيته الإخبارية تتفق مع وجهة نظر الجريدة. فقد خلت هيئة الإدارة من المشاكسين المخالفين حين تركتها. وسألني جاك ذات مرة، عندما حلت الذكرى الخامسة والعشرون لتخرجه من جامعة هارفرد، عما يمكن أن يكتبه عن نفسه في الكتاب السنوي. أنا شخصياً أحببته وقلت له ذلك صراحة، لكنني ازددت راديكالية نتيجة للدمار الشامل الذي حل للبيئة، وتوقفت عن الكتابة الروتينية المقتضبة على طريقة أناشيد الربيع.

المخالفة في الرأي مثل الخميرة التي تجعل العجين جاهزاً ليخبز، أو المظاهرة الرعناء التي تطلق شرارة الإصلاح، لكنها ليست ملائمة لمن يريد أن يسعى وراء لقمة عيشه. فهو يتسبب في الطلاق، ومعاناة الأطفال. وقد تكون له آثار مدمرة، فصناع السلام يتعرضون للاغتيال، بينما تعرض آخرون أقل مكانة منهم، وأكثر خطأ، للذم والقدح والإفقار ولأمراض القلب والقرحات المعوية. أما القضاة التابعون لنظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، والذين أرسلوا نيلسون مانديلا إلى السجن، كانوا بالتأكيد من الرجال الناجحين في عملهم، والمتزنين في شخصياتهم، مثلهم مثل القضاة الفرنسيين الذين أحرقوا ((جون أوف آرك)) في روين، والقساوسة الرومان الذين أعدموا عالم الفلك الفيلسوف جيورادنو برونز. أيامنا هذه، لا يأبه المسؤولون المنطقيون أننا قد ندمر نصف الأصناف الحيوانية والنباتية خلال العمر الزمني لإنسان واحد. وهل بإمكانهم تخيل ما الذي كان سيحصل لو أننا منحنا الجنود الثلاثة الذين أوقفوا مذبحة ((ماي لاي)) رغم تعريض أنفسهم للخطر ـ وبعد أن قتل زملاؤهم 400 فيتنامي ـ وسام الشرف الأعلى في باحة البيت الأبيض، بدلاً من تجاهلهم التام طيلة ربع قرن؟

الذين يقفون وأيديهم وراء ظهورهم هم الذين يحصلون على تلك المكافآت، بينما يتحول الآخرون إلى نكرات لو كان تكريمهم محرجاً وغالي الثمن. ويمكن أن تشهد ذلك في المدارس الابتدائية وفي سن المراهقة وعندما تصل إلى الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات من العمر. للنزاهة والاستقامة ثمن، فقد تعرض أغلب المناضلين الشرفاء الذين عرفتهم للخيانة. لا يعني ذلك أنك لا تستطيع الوثوق بأحد، لكم معظم رجال السلطة من الذين لا يمكن الوثوق بهم. ((معادون للفاشية قبل الأوان)) هو اللقب الذي أطلب على كتيبة ((إبراهام لينكولن)) من قبل الجيش الأمريكي عام 1942م، بعد أن بدأت الحرب الكبرى ضد النازية. ذهب هؤلاء إلى إسبانيا لمحاربة الجنرال فرانشيسكو فرانكو وتعرضوا للقصف المدمر من قبل سلاح الجو الألماني دون أن تأتيهم المساندات. وعندما عادوا والتحقوا بالخدمة العسكرية مرة أخرى بعد معركة بيرل هاربر عام 1941، كانوا قد أصبحوا عرضة للشبهة. ولذلك لم يسمح لهم بمغادرة معسكراتهم إلا قليلاً، مع أنهم هم الذين تعرضوا للخيانة المطلقة في حملتهم الأولى في إسبانيا.

منع إيمرسون ـ وهو أيقونة الأدب الأمريكي ـ من إلقاء المحاضرات في جامعة هارفارد لمدة 30 عاماً بعد أن ألقى محاضرة مثيرة للجدل تحت عنوان ((خطاب مدرسة المطلق))، والتي يحتفل الآن بعبقريتها؛ بينما لم تتم دعوة ((ثورو)) إطلاقاً للحديث في هارفاد، مع أنه أيضاً من خريجيها اللامعين ويسكن بالقرب منها. فقد كان اهتمامها بالديانات الآسيوية أكثر بكثير مما ينبغي للغايات الأكاديمية، بالإضافة إلى أنهما ناصرا ((جون براون))، واتخذا مواقف متطرفة أخرى، لدرجة أن إيمرسون تكلم في اجتماع الوطني لحقوق المرأة عام 1855م. ((الحياة نشوة))، حسبما كتب في كتابه ((سلوك الحياة)) والذي ما زال مبدأ ثورياً لأن إحساسنا بالاهتمام الذاتي أحيانا يظهر انغمارنا فيها. فالتعامل مع التألق صعب للغاية. لا يريد أحدنا أن يظهر بمظهر المختلف عن طريق الآخرين لفترة طويلة. ومع مرور الزمن يمكن أن يشك الإنسان إذا ما كانت حياته ذات معنى أصلاً.

أكاد لا أنظر إلى صورتي في المرآة منذ سنين (فأنا لا أستخدمها عن حلاقة ذقني). فقد كونت صورة ذاتية عن نفسي، مثلما فعل الآخرون، أحملها معي أينما ذهبت. لا أقصد بذلك الشخص هويتي المعلنة. ذلك الشخص الكهل المنضبط الذي يتقن الظهور بمظهر زائف. بل قصدت ذلك الشخص الذي أتمنى أن أكون مثله، والذي يستعد للقاء خالقه في نهاية الأمر.. هل سأحتاج حينها إلى عكاز يدعم روحي، مثلما احتجت إلى جبيرة لعلاج مرض بأعصاب يدي؟ يبدو أنني مرتاح البال أكثر من ذلك، ولو أنني أتعثر في مشيتي أكثر من السابق. المرآة تذكرني بالمتاعب التي مررت بها، بالإضافة إلى ملامحي الساخرة. أعرف أنني أبالغ بعض الشيء؛ فالتقدم في السن أمر يبولوجي، ولا يقتصر على كونه خريطة للإهانات والمفاجآت التي تعرضت لها، أو اليأس الذي أحسست به. تحاكي تجاعيد الوجه الآمال غير المحققة، ولو أنها ليست نتيجة لها، ولا تعطي انطباعاً صادقاً عن الفرحة التي شعرت بها كل يوم طيلة حياتي (أو على الأقل صباح كل يوم). فالعديد من الذين ينتابهم شعور بالمرارة في منتصف عمرهم، يمتلكهم شعور بالامتنان عند بلوغهم سن السبعين لمجرد أنهم مروا بحياتهم بسهولة، رغم أن ما واجهوه في حياتهم أثقل كاهلهم، ويتكتمون على شعورهم بالفخر لأنهم لم يردوا على من أهانهم. ومع أنهم امتصوا هذه الصدمات، إلا أنهم لا يعتقدون أن الحياة يجب أن تخلو من الصعوبات، مثلهم في ذلك مثل تومامس مان الذي يقول إن علينا أن نعيش مثل الجنود، حتى لو لم نكن جنوداً، وكيف يمكن أن تصبح جندياً دون المرور بمعسكرات تدريب قاسية؟

إذا أردت أن تكون جندياً ونصيراً في المقاومة في الوقت نفسه، فذلك يتطلب أن تتمرد أحياناً لأن الجيش يقتل أيا كان إذا صدر له أمر بذلك. والامتثال والخلاف لا يمكن اعتبارهما نقيضين متكافئين، لأن متمرداً واحداً ليس بقوة عصابة مسلحة منسجمة، الحكمة التقليدية هي التي أدت إلى اعتقال والد ديكنز ودسه في سجن المدنيين، وهي التي أدت إلى شنق نشالي لندن الصغار حتى 1860م. وهي نفسها التي تؤدي باستمرار إلى تشكيل العصابات المسلحة في بلادنا، وهي التي سمحت لأهالي تكساس وكاليفورنيا بتشغيل الأطفال المكسيكيين ساعات طويلة لدرجة لا تعقل. على المخالف أن يوقظ نفسه ـ ثم يوقظ ضمائرنا من سباتها إذا أراد أن ينتبه للأحداث، مثلما فعل جوزيف ويلش، وهو محامي من بوسطن، عندما وجه هجوماً كلامياً لجون مكارثي الذي أثار الرعب من الشيوعية في أمريكا. لقد ظهر جوزيف ويلش على شاشات التلفاز وصرخ بطريقة متلعثمة ((ألم يتبق لديك ذرة من اللباقة يا سيد؟ هل تفقدت كل آداب سلوكك؟)).

أصبح وجود الكاميرات متطلباً سابقاً لتفعيل أعمال الضمير عندنا. فلولاها، لكان بإمكان رئيس شركة بيرمغهام في ألاباما المدعو بول كونور أن يستمر في مهاجمة المتظاهرين بخراطيم المياه كما يشاء. وكذلك حال الرهبان البوذيين في سايغون، والذين لولا وجود الكاميرات، لما حازوا على جمهور عالمي يشاهدهم وهم يحرقون أنفسهم احتجاجاً على حكومة دييم العملية. وبشكل عام، يمكن أن نقول إن المخالفين في مجتمعنا هم غريبو الأطوار الذين يشرفون على مخازن الأغذية والملاجئ التي تخدم الأقل حظاً في مجتمعنا المريض. فلو لم تدفعهم شكوكهم للعمل التطوعي، لتحولت جراح مجتمعنا إلى عاهات دائمة. وكما يمكن للضحك أن يكون مخالفة، كذلك يمكن أن تكون الجدية، بينما الامتثال للأعراف السائدة مثله كمثل طالب في إحدى الجمعيات الأخوية الطلابية، يتكلف الابتسامة من طرف فمه عندما لا يراه الآخرون، إلا أنه يبصق على الأرض ويتبول بين السيارات عندما يخرج من الكنيسة إلى موقف السيارات.

عندنا بالفعل تقليد باحترام حرية الرأي (فالرهبان الذين ضحوا بأرواحهم في التيبت لم يتنقل أخبارهم في الصحافة الصينية على الإطلاق)، بالإضافة إلى تجاوبنا المدني للمقاومة السلمية، بحيث أصبح بمقدور أشخاص مثل مارتن لوثر كينع، وغاندي في الهند أيام الاستعمار البريطاني أن يظهروا عصياناً مدنياً رمزياً دون أن يتعرضوا للسجن المؤبد أو القتل على أيدي الشرطة. فلو كان هناك شخص مثل غاندي في الجزائر أيام الاستعمار الفرنسي، أو في روسيا السوفييتية, أو صربيا تحت حكم ميلوسوفيتش، لما تجاهلوا أمره بهذه السهولة. وعلى الرغم من أن المواطن العادي لا يحتفل بضماناته الدستورية (بل من المرجح أن يقوم بمهاجمة المسؤولين، أو عزلهم من مناصبهم بسبب آرائهم السياسية الرعناء)، فإن المحامين يتذكرونها باستمرار، ويذكرون الشرطة بها صباح اليوم التالي، وبعض خريجي الجامعات وكذلك ذوي التعليم الذاتي. وأنا بالتأكيد لي آراء لن يتفق معها جيراني ـ ويجب أن يكون الأمر كذلك وإلا لما زلنا نعيش في الأدغال. وأنا متأكد من أن الأجيال القادمة ستوافقني الرأي، ألا تعتقد ذلك؟ عدد كبير منا هم مخالفون صامتون، ونحن على علم بعلات الدنيا أكثر من الآخرين، ومع أننا لسنا مثل غاليليو أو جيوردانو برونو، إلا أنني متأكد من أن أي شخص يكسب من الحياة أكثر منا فهو خائن إلى درجة ما، ألا توفقني الرأي؟ مات توم باين بعد أن استهزأ به أمثال جون آدمز، بينما لقيت جون حتفها في المحرقة في روين عام 1431، وقد تعرض أحد القضاة للسجن لأنه اعترض على محاكمتها، بينما حكم على الراهب بيير بوسكيه بأن يحرم من كافة المأكولات ما عدا الخبز والملح لمدة 8 أشهر، لأن أحدهم لاحظ أنه تحسر عليها عندما رآها تحترق، وهذا بعد أن تذلل واعترف بخطئه علناً.

لم يكن معظمنا ليعترض إلى هذا الحد، فالخطر كان سيخيفنا بالتأكيد. على الأرجح أننا كنا سنقول أنها جنت على نفسها هذا العقاب، مثلما فعل جون واكر ليند وغيره من المثاليين المشوشين. كانت جون ذات تأثير رئيسي، لا ثانوي، لكنها ذات شخصية وإلهام مبهمتين، لدرجة أن مثيلا لها مختلف وأكثر صلابة قد نجده اليوم في تجاوبنا للمآسي العظيمة التي أخذت تتبلور أمام أعيننا، والتي في ظاهرها يبدو أنها ستستمر إلى الأبد، مثل وباء الإيدز وانتشار المجاعات في إفريقيا، والمحرقة العالمية التي أنزلنا بها على أشكال الحياة الأخرى عبر العالم. وفي كل مرة تحصل فيها مصيبة لا نستجيب. فنحن بدينون، نعمل في حدائقنا ومنازلنا، ولانبالي بالآخرين. ستفشل القنوات التلفزيونية فشلاً ذريعاً لو أنها أخذت تبث صور الأطفال المصابين بـ ((الهزال الذين يموتون جوعاً)), أو أشكال الحياة التي تتعرض للانقراض الجماعي وكذلك لن تكون استجابتنا طيبة لمشاهد القصف الجاري لو أن تلك الصور التقطت من الأرض بدلاً من تصويرها جواً بحيث تبدو كلعبة نينتيندو الممتعة. ولن نستمتع بسماع أصوات ملايين البشر وهم يتعرضون للتعذيب من قبل دكتاتوريات حليفة لنا في دول العالم الثالث بناء على توصياتنا. بل نريد أن نستغرق في مقولاتنا الطنانة ـ فنحن أمة واحدة مؤمنة ومتوكلة على الله، نسعى من وراء اللذة كما نسعى من وراء الطيبة والصلاح. وللأسف أن حرية الكلام لا تعني بالضرورة أنك سوف تبدع شيئاً جديداً في كلامك، كالتوصل لتعريف ما هي الطيبة أو الصالح، ومع ذلك، ومن بين كل عشرة منا، تجد تسعة يعتقدون أنهم يعرفون ما هي. ونعلم أن الاحتجاج والتمرد متأصلان في الصدق والإيثار الغيري، فهنالك قوانين أكثر سمواً. فالاستقامة لا تعني مجرد الالتزام بالمبادئ ودفع رسوم النقابة (كان بعض الشعراء اليديشيين من أصحاب مذهب ((اللا أدرية)) الدينية يجتمعون في نقابة عمال الطلاء في نيويورك). إن نمو الاستقامة عملية مستمرة، ولا يخطط لها مسبقاً وعندما يكون حظك سيئاً قد تجد نفسك في معركة سابقة لأوانها ضد الفاشية أو متطوعاً مثل ثورو، متقدماً على بقية الأمريكيين بقرن من الزمن ومسجوناً لاتخاذك موقفاً ما.

لا يمارس إلا القليل منا تعليمات دينهم، ونحن نعلم أن الديمقراطية الفجة ستكون مفرطة لدرجة أنه يجب كبح جماحها، ومع ذلك يصل العديد من السفهاء إلى المناصب العليا وينصبون سفهاء آخرين مثلهم بمناسب تمنحهم سلطة لا يتمتع بها سوى القليل من المسؤولين المنتخبين من قبل الشعب، وبذلك نجد أنفسنا مستبعدين من قبل أشخاص مثل روبرت مكنامارا الذي كذب على الشعب الأمريكي بشأن عدد القتلى من الجنود في فيتنام، والذين يعتذرون عن أفعالهم لاحقاً. ويمكن أن تتشعب السلطة في الديمقراطيات بطريقة مثيرة للسخط، فالقلة من أصحاب المناصب كان سيتم انتخابهم لو أنهم صدقوا في حملتهم الانتخابية. ونحن نفترض مسبقاً أنهم أوغاد على المسرح ـ بمكياجهم وتمثيلهم. وبذلك يمكن أن نعتبر أن نظام قضائنا يجسد الديمقراطية الحقة إلى حد أكبر، ولو أن المحامين يتقاضون أجوراً أعلى من اللازم، إلا أن الذين يصدرون الحكم هم اثنا عشر شخصاً اختيروا عشوائياً ليشكلوا هيئة المحلفين وهم لا يتقاضون أجراً يذكر. وفي السياق نفسه، لا نثق بهئية المحلفين إذا متنعت عن إصدار حكم لعدم قدرتهم على الاتفاق، فهم يذكروننا بالذين يتكاسلون عن جز عشب منزلهم في حارتنا لدرجة أن منظر شارعنا يصبح قبيحاً. ورغم هذه الاستثناءات، إلا أننا نجد أنفسنا في الأنظمة الديمقراطية ميالين للفرد الذي يضرب فيه المثل كأقلية من شخص واحد فقط، صاحب الأفكار التي يصعب التنبؤ بها. فقد لا نعجب بغروره أو اهتمامه بالشكليات، مثل تذمره المعتاد وانتقاداته الزائدة على حدها، ورؤيته العالم من خلال عدسة المخالفة وحدها. لكن هذه العدسة تصبح عظيمة الأهمية كنظارة القراءة عندما تكشف لنا أكاذيب الآخرين، والكذب هو ما نريد تجنبه منذ البداية.

طلبت مني ((أونغ سان سوكي)) أن أحضر لها موسوعة لمساعدتها في قضاء وقتها أثناء سنوات حبسها العشر، ويا لها من مكافأة مبتذلة في أن تصبح مشهورة في المستقبل بسبب سنوات من الصمت والسجن. كما أن شهادتها على معاناة شعبها وثيقة الصلة في الموضوع. يمكن اعتبارها الأكثر شهرة بين عشرات الآلاف من مساجين الضمير غير المعروفين حول العالم، والذين كلما نقص عددهم بسبب الموت أو العفو، احتجز عدد آخر ليحل محلهم. ونحن نعلم طبيعة السجانين، كما أننا نعلم أن هنالك وفرة من الواشين والمتآمرين الذين يمكن أن يكشفوا للسلطات مخبأك مقابل 100 دولار ـ إضافة إلى الصحافة المروضة التي لن تذكر شيئاً عن الموضوع. فالعبيد القمعيون عديموا الرحمة يمكن أن تجدهم في كل مكان، وكذلك الصحافيون المبتذلون. ونعترف جميعاً بالصمت الجبان الذي نلتزمه للحفاظ على وظائفنا.

أنا لا أثق بصدق السلطة وعدالة الرأي العام. ولكن لو استثنيت الحثالة التي تطفو على سطح المجتمع، والتي منهم يأتي السجان ورجال الدعاية، لوجدت أن الأناس العاديين على المدى الطويل يغمرهم إصرار وحيد وبهيج، إصرار هو محرك الديمقراطية حين تعمل. على مدى مئات السنين، تعرض النشالون الصغار للشنق علناً، وبحضور رجال الدين، وهم يبكون، إلى أن اهتم آباء وأمهات الأطفال الآخرين ليتقدموا وإن بتردد بشكاوى مرتبكة وخائفة، ولقد تخلينا عن أساليب التعذيب الأخرى التي انتشرت في السابق (مع أنني لا أعتقد أن التعذيب أقل انتشاراً في العالم الآن، كما أن عدد الأطفال الذين يموتون موتاً أكثر إيلاماً وبطئاً في المجاعات يفوق عدد الذين أعدموا في ((تايرن هيل)) بآلاف الأضعاف). لكن إصلاح الدمار الذي ألحقناه بالبيئة أكثر إشكالية من ذلك، فعندما نصل إلى مرحلة الكتلة الحرجة من التدمير، سيكون الأمر كما لو توقفنا عن إعدام الأطفال بعد أن قتلناهم جميعاً.

الخلاف في الرأي جوهري ـ فهو يتخلص من الجراثيم ويصفي الأرواح ـ حتى لو جاء متأخراً. فلا تتردد في الثورة والهيجان ـ بل أطلق صرختك بطريقة الذين أنشؤوا مؤسسة ((الأرض أولاً)) للحفاظ على البيئة، فهذا جزء من الحياة. تعرض جيورانو بورنو للصلب والحرق بعد أن ربط لسانه بأداة تعذيبية حتى يتأكدوا من أنه لن ينطق بالحقيقة كما يراها للجمهور في ((كامبو دي فيوري))، بينما اشتعلت النيران في أغصان الأشجار، (ولم يكن ذلك لتفادي جرح شعور الآخرين). لكن الخلاف أداة للإحسان أيضاً، فنحن لا نريد أن يعدم المعاقون عقلياً وأن يموت المهاجرون غير القانونيين عطشاً في الصحراء، أو نقضي على سلاحف البحر لنستمتع بكوكتيل الإربيان، أو أن نطور طائرات بلا طيار تمكننا من اغتيال أي شخص بمجرد التعرف على تركيبته النووية DNA. فنحن نخالف القسوة والجشع، والذاتية والعديمة، ومحبي الحروب ومقتلعي الأعين (وأقصد بهم الذين يدمرون المناظر الخلابة الطبيعية التي تتغذى بها أعيننا).

لن تستطيع المخالفة والاحتجاج إذا لم تربطك علاقة حميمة بمعتقداتك. أما بعد الحصول على ذلك، تغدو المخالفة رهنا لمزاجك. والمواقف ثنائية السلبية ـ مثل ألا تعجب بأشجار السيكوية أو الكاتدرائيات، ثم تعارض التخلص منها ـ تؤدي إلى إبطال ادعائك بالخلاف. فالموت، على سبيل المثال، سيكون لغزاً لي ولغيري. ولا أتوقع أن المسيح أو حتى مجرد كيمياء حيوية. (ولا أستطيع أن أتخيل ما هو المخلوق المسكين الذي يمكن أن يتمنى أحدنا أن يعود إلى الحياة على شكله بعد وفاته). أنا أعتقد أنه أكثر من مجرد وفاة أو عظام مجردة في قبر. وهذه القناعة هي التي تدفعني للسعي وراء الحفاظ على الألغاز والأسرار والجمال والتعقيدات في عالمنا هذا.

http://www.jawdatsaid.net/word-artcl/M.01.15.htm


اترك رد