البارانويا الإسلاميّة أو الجماعيّة – وفاء سلطان-

مقتطف من (الوطن ليس ارض وذكريات بل  انه الانسان ) د. وفاء سلطان .

البارانويا
 حالة نفسيّة مرضيّة يملك المصاب بها جهازاً عقائدياً معقّداً وتفصيلياً يتمركز حول أوهام لا أرضيّة واقعية لها . هذه الأوهام تقنعه بأنه مضّطهد من قبل الآخرين وبأنّ السبب الرئيسي لإضطهاده من قبلهم هو كونه شخص عظيم ومهمّ للغاية ! الجهاز العقائدي المفعم بالأوهام الذي يبتلي به المصاب بالبارانويا يتشكّل ويتطور ببطء شديد وعلى مرّ زمن طويل. ويصبح مع الأيام منظّماً للغاية إلى درجة يبدو معها منطقيا ومقنعا !

الخطورة التي ينطوي عليها هذا الإضطراب النفسي تكمن في أن المصاب به يبدو طبيعيّا أثناء الحديث وفي تصرفاته وسلوكه إلى درجة لاتثير لدى اللآخرين إيّة رغبة لمواجهة المريض وإحالته إلى الجهات المعنيّة بعلاجه . تتشكّل لدى المريض قناعة مطلقة بأنّه عظيم وبأنّ الآخرين يسعون لإيذائه والحطّ من عظمته.

ويدافع عن قناعته هذه حتى عندما تواجهه بكلّ البراهين التي تثبت عدم صحّة تلك القناعة . عدم الثقة بالآخرين يدفع المريض لتركيز كلّ حواسه على تصرفات الناس من حوله وتفسير كل حركة لهم بطريقة تخدم قناعاته. يبني من الحبة الصغيرة جبلا كبيرا كأن يدّعي عندما يرىىشخصا يلوح يده عن بعد بأنّ هذا الشخص يشير اليه ويتكلم للآخرين عنه، وقد يذهب أبعدمن ذلك فيدّعي أنه يخطط لقتله . هذه الأوهام التي يعيشها المصاب بالبارانويا تجعل منه شخصا شكّاكا عنيدا غاضبا عدوانيّا وناقما على الآخرين .

تؤكّد معظم الدراسات في الطبّ النفسي وعلم النفس على أن العوامل التي تلعب دورا في الإمراضيّة هي عوامل نفسيّة واجتماعية تتعلق بنشأة المريض والطريقة التي تربّى عليها، أكثر مما هي أسباب بيولوجيّة تتعلق بجسده من الناحيّة التشريحيّة والكيمائيّة والوظيفيّة . الطب النفسي يتناول هذا الإضطراب كحالة فرديّة ولم يسبق أن تناولها كحالة عامة قد تصيب جماعة بشريّة بكاملها. رغم أنّه من المؤكّد في هذا الحقل من حقول الطبّ بأن هناك بعض الإضطرابات النفسيّة التي تكثر في جماعة أو فئة أو مجتمع نظرا لوفرة العوامل المسببة للإضطراب في تلك الجماعة أو الفئة أو المجتمع . هذا من ناحية، ومن ناحيّة أخرى هناك حالة مثبتة علميّا وهو مايطلق عليها الأوهام المشتركة  أي Shared Psychosis.Shared Psychosis.Shared Psychosis. Shared Psychosis. Shared Psychosis.Shared Psychosis.

بمعنى أنّه عندما يعيش شخص ما سليم مع شخص آخر مصاب بأوهام نفسيّة لفترة زمنيّة ما، وبمعزل عن المصادر الأخرى التي تقوم بتزويد معلومات تنفي هذه الأوهام، يقوم الشخص السليم بتبنّي أوهام الشخص المريض ويصبح مريضا مثله. يلجأ الطبيب أو المرشد النفسي المشرف على علاج هذه الحالة إلى عزل الشخص السليم أصلا عن الشخص المريض. بعد فترة قصيرة من العزل يرجع الشخص السليم إلى وضعه السليم ويتخلى عن الأوهام النفسيّة التي تبناها خلال تواجده مع الشخص المريض .

بناء على تلك الحقيقتين الآنفتين الذكر واللتين هما :

أولا: عندما تكثر العوامل المسببة للإضطرابات النفسيّة في جماعة ما نجد ازديادا في حدوث هذا النوع من الإضطرابات لدى تلك الجماعة .

ثانيا : عندما تغيب المصادر المعلوماتيّة الصحيحة والموثوقة عن جماعة ما، تنتشر الأفكار الوهميّة بالعدوى، من الموهوم إلى السليم، بين أبناء تلك الجماعة .

استنادا إلى تلك الحقيقتين العلميّتين، وبعد دراسة قمت به شخصيا تناولت الطريقة التي يتعايش بها المسلمون عموما والعرب خصوصا مع العالم المحيط بهم والطريقة التي يتراءى لهم بها هذا العالم، وصلت إلى قناعة، سأسعى مستقبليا لوثقها علميّا، قناعة أكّدت لي أن المسلمين مصابون بحالة من البارانويا أطلق عليها: البارانويا الإسلاميّة أو الجماعيّة .

عبر تاريخ طويل كانت، ولم تزل، المصادر الإسلاميّة هي المصادر الفكريّة والتربويّة الوحيدة  التي اعتمد عليها الناس في البلاد الإسلاميّة والعربيّة لتنشئة الإنسان المسلم . رفضت تلك المصادر السماح لأيّ مصدر آخر بأن يحلّ محلّها أو حتّى بأن ينافسها! فظلّ الإنسان المسلم رهينة تلك المصادر، عاجزا عن تبني الحقائق العلميّة التي تنفي صحّة الكثير من الأوهام التي ساهمت تلك المصادر في تكريسها. وانتقل الوهم في تلك المجتمعات حتى صار وباءا شمل المريض والسليم، المتعلّم والجاهل على حدّ سواء ! التربيّة المستقاة من المصادر الإسلاميّة أقنعت الفرد المسلم بأنّه يتميّز عن الآخرين بعظمته . لم يكن الإحساس بالعظمة الذي ابتُلي به المسلم إلاّ وهما، لا أساس له، وهما عزله عن العالم المحيط به ومنعه من أن يرى أخطائه ويعترف بها وبالتالي يسعى لتصحيحها . الإحساس بالعظمة، الذي استقاه المسلم من عقيدته وانتقل بالعدوى من جيل إلى جيل، بنى له برجا عاجيا وهميّا عزله فكريّا وزمانيّا عن العالم كلّه . والقرآن، كأهمّ تلك المصادر، مليء وتكاد لاتخلو صفحة فيه من العمل على تكريس ذلك الوهم . لقد أشرنا مسبقا على أنّ المصاب بالبارانويا يصرّ على أوهامه رغم كلّ البراهين الواقعيّة والعلميّة التي تؤكّد عدم صحّتها . ” كنتم خير أمّة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ..” توهّم المسلم بأنّه خير عباد الله أعماه عن رؤية الواقع على حقيقته، وأقعده عن العمل على  تغيير هذا الواقع الذي يتعارض مع انسانيّته وكرامته . لقد سلّم بوهمه، واعتبره حقيقة إلهيّة ليس مطلوبا منه أن يثبت صحّتها . عندما يميّز الإنسان نفسه عن الآخرين بالتفضيل، دون وجود براهين تثبت صحّة هذا التفضيل، يصل مع الزمن إلى نقطة يصبح عندها عاجزا عن رؤية أخطائه وعن الإعتراف بفضائل الآخرين. عندما يعجز الإنسان عن رؤية أخطائه وعن الإعتراف بفضائل الأخرين تنقلب عنده المفاهيم فيصبح منكره معروفا ومعروف الآخرين منكرا . ألم يقل له الله أنّه جاء إلى تلك الدنيا ليأمر بالمعروف؟ ! إذا كلّ مايفعله معروفا ! لاحاجة لإثبات صحّة ذلك، وهل الحقائق الإلهيّة تحتاج إلى اثبات؟

كلّ الوقائع والدراسات، وحتى النظرات البسيطة التي لاتستند إلى تمحيص وتدقيق، تشير إلى أنّ الأمّة الإسلاميّة والعربيّة قد هبطت إلى الدرك الأسفل بين الأمم. والهبوط إلى مستوى ذلك الدرك لايتمّ في أيّ مجموعة بشرية إلاّ عندما يصبح المنكر معروفا والمعروف منكرا في أعراف تلك المجموعة . حتّى عندما يفعل المسلم منكرا لايستطيع أن يراه إلاّ معروفا، ولايستطيع أن يرى معروف الآخرين سوى منكرا .

أليس هو خيرهم؟ ! هو مصرّ بأنّه خير عباد الله سواء كان واقعه منسجما مع هذا الإصرار أم متناقضا ! هذا الوهم الذي يتشبث به لايشجّعه على إعادة النظر في واقعه، وبالتالي لايرى ضرورة لتغييره . هذا من جهة، ومن جهة أخرى عندما يميّز الإنسان نفسه عن غيره بالتفضيل يخلق نوعا من الهوّة بينه وبين هذا الغير. تلك الهوّة تمنعه من التواصل الإنساني مع الآخر وتزرع لديه الشكوك بمصداقيّة كلّ مايتعلق بهذا الآخر . لايستطيع الإنسان أن يقيم علاقة سليمة مبنيّة على الإحترام المتبادل مع انسان آخر طالما  يتوهّم بأنه أفضل منه وطالما يشكّ بمصداقيّة هذا الآخر ! إذاً جنون العظمة )أحد وأهم أعراض البارانويا( الذي ابتلي به المسلم ساهم عبر الزمن في تجميد واقعه. وفقدانه الثقة بالأخرين )عرض آخر من أعراض البارانويا ) ساهم عبر الزمن في عجزه عن إقامة علاقة طبيعيّة مع هؤلاء الآخرين. فصار، وكنتيجة حتميّة لتلك الأوهام، رهينة واقع سيء عزله عن العالم المحيط به . العرض الثالث والمهم الذي يتميّز به المصاب بالبارانويا هو أنه يصبح مع الزمن، وكنتيجة حتميّة لإصابته بالعرضين السابقين، يصبح جدليّا  argumentative يتبنى اسلوبا في النقاش لاتستطيع معه أن تتوصل إلى نتيجة ! خض في أيّ قضيّة مع مسلم واصغ جيدا إلى طريقته في الحوار. يجرّك، وبسهولة، مع الوقت إلى جدل عقيم لاطائل منه، فتجد نفسك وإياه في النهاية تتهاوشان على البيضة والفرخة ومن فيهما أنجب الآخر !

********** **********

كنت أتبادل أطراف الحديث مع أحد أقاربي في الوطن الأم عندما تطرّقنا إلى ذكر الحادثة التي تحطّمت خلالها طائرة مصريّة في الأجواء الأمريكيّة والتي ذهب ضحيّتها جميع ركّاب  الطائرة . انبرى قريبي وراح يقصّ عليّ بسرعة البرق حكاية تلك الطائرة وبطريقة تفصيليّة مثيرة للدهشة : “لقد احتوت تلك الطائرة ثلاثين ضابطا مصريّا تلقوا تدريباتهم العسكريّة في أمريكا ونالوا خلال اقامتهم علوما عالية المستوى . كان من المفروض أن يعودوا إلى مصر  بل اسبوعين على متن ثلاث طائرات. ولكن صدر أمر لايعرف أحد أسبابه اقتضى تأجيل سفرهم على أن يسافروا لاحقا على متن طائرة واحدة وكانت نهايتهم في تلك الرحلة المشؤومة “. ويتابع قريبي بيقين لايترك لديه مجالا للشكّ : لقد كان للموساد الصهيوني، وبالتخطيط مع الأمريكان، ضلعا كبيرا في تلك المؤامرة! لقد خسرت مصر خيرة أبنائها المدرّبين وذوي الكفاءات العسكريّة العالية . أراقب الجديّة والإنفعال اللذين يتحدث بهما قريبي ثم أسأله : ولكن لماذا تستقبل أمريكا منذ البداية ضباطا مصريّين ولماذا تقبل بتدريبهم طالما تخاف على مصير اسرائيل منهم؟ !! ويردّ قريبي: هل تعرفين كم تتقاضى أمريكا من أموال من جرّاء تدريبهم؟ !! وأردّباستغباء : ولكن على علمي أنّ مصر هي ثاني دولة بعد اسرائيل من حيث حجم المساعدات الأمريكيّة التي تتلقاها، والإقتصاد المصري عمليّا يعيش على تلك المساعدة ! ويتهجّم وجهه: يسرقون الجمل ثم يتبرّعون باذنه !

 ولماذا لاتحرسون جمالكم؟ !!  إنّهم الحكّام العرب المتواطئون !  هؤلاء الأشبال من هذا الأسد وهؤلاء الحكام من تلك الأمّة !  إنّه الإستعمار الغربي الذي خرّب تلك الأمّة ! وأجد نفسي أتجادل مع أحمق حول البيضة والفرخة ومن منهما أنجب الآخر . أحجمت عن مزيد من الحوار عملا بالمثل القائل: لاتجادل أحمقا. فالناس الذين يصغون اليكما لايميّزون من الأحمق بينكما ! حوار الأحمق غباء، ولكن أقصى حدود الغباء أن تترك أحمقا يسرح ويمرح دون أن تفضح جهله ! فالأوهام التي يكرّسها جهله، وخصوصا في مجتمع معزول عن كلّ مصادر المعلومات العلميّة،تنتقل بالعدوى ويصبح المجنون الحقيقي، حسب تعريف ذلك المجتمع، هو الذي يرفضها .

اترك رد