سعدي بيك – عزيز نيسين

<![CDATA[عليّ أولاً أن أعرفكم بسعدي بيك بصورة جيدة. ثمة نوع من الناس يقال فيهم إنهم “مثل بعر الأرنب لا يفوح ولا يلوث” إن سعدي بيك هو المثال الأفضل على هذا النوع. لا في العير ولا في النفير، لا للصيف ولا للضيف. فإذا سألته “كم حزباً في البلد؟” فهو لن يجيبك حتى بـ”لا أعرف” بل يكتفي برفع كتفيه وزمّ شفتيه.‏ هو رجل رزين ومهذب، يكبرني بعشر سنوات لكنه يبدو بعمر أبي لشدة رزانته ورصانته، لا يمكنك اقتلاع الكلمة من فمه إلاّ مثل اقتلاع الضرس الملتهب،

[ad]

فهو يكاد لا يتكلم أبداً.‏ يقيم مع زوجته وابنته في قصر صغير عتيق في “أرن كوي” ورثه عن أبيه ولا يؤجر أياً من أجنحته على أمل أن يحصل لابنته على صهر يقيم معهم.‏ ألتقي به كل صباح، فإذا لم يحدث ذلك في القطار، حدث حتماً في عبّارة الساعة التاسعة التي تنطلق من “حيدر باشا”.‏ اضطررت لملازمة الفراش خمسة عشر يوماً بسبب المرض، وفي اليوم الأول لعودتي إلى العمل بعد إبلالي من المرض ترجلنا، سعدي بيك وأنا، سوية من القطار ومشينا باتجاه العبّارة، وإذ بأحد المعارف يمر بنا ويقول لسعدي بيك:‏ ـ كيف الطقس يا سعدي بيك؟‏ ثم تابع طريقه من غير أن ينتظر جواباً من سعدي بيك. ثم لحق بنا واحد آخر وقال وهو يهبط السلالم الرخامية:‏ ـ مرحباً سعدي بيك.‏ ـ أهلاً..‏ ـ كيف الطقس يا سعدي بيك؟‏ قال الرجل ذلك وهرب مبتعداً، وكان واحداً من زملائنا. نظرت إلى وجه سعدي بيك، فوجدته شاحباً مثل كلس مزج بطلاء أخضر…‏ ثم سمعنا أصواتاً ساخرة خلفنا:‏ ـ كيف الطقس يا سعدي بيك؟‏ ـ كيف الطقس يا سعدي بيك؟‏ كان غضب سعدي بيك يتصاعد، لكنه يحاول إخفاءه. صعدنا إلى العبّارة وجلسنا في القاعة السفلى. قال رجل يجلس على مقربة:‏ ـ مرحبا سعدي بيك.‏ لم أكن على معرفة بهذا الرجل المسن والمتأنق. ردّ عليه سعدي بيك التحية:‏ ـ أهلاً يا سيدي.‏ ـ كيف الحال يا سيدي؟‏ ـ شكراً لكم. الحمد لله.‏ ـ أوه! أوه! أنعم الله عليكم بالصحة والعافية. كيف الطقس؟‏ قفز سعدي بيك من مكانه كالسهم، التقط قبعته وابتعد فخرجت معه لأنه رفيق طريقي لسنوات. وقفنا جنباً إلى جنب في مؤخر العبّارة. عرفت أنه مستاء جداً من شيء ما لكني تجنبت سؤاله خشية أن يزعجه السؤال. التزمنا الصمت حتى وصلت العبّارة إلى المرفأـ حيث سأله عدد من الأشخاص عن الطقس ونحن نترجل من العبّارة.‏ بدأت أغتاظ بدوري، وأردت التدخل لكني لم أفعل لأنني لا أعرف ما هو الموضوع. ولم يكن الغيظ يناسب هذا الرجل المهذب. سألته بعد أن صعدنا إلى الأتوبيس معاً:‏ ـ ما الأمر يا سعدي بيك؟ لماذا يسألك الجميع عن أحوال الطقس؟‏ نظر في وجهي نظرة ارتياب ثم قال:‏ ـ ألا تعرف؟‏ ـ لا… لا أعرف.‏ ـ سأحكي لك هذا المساء على العبّارة.‏ افترقنا عند أول النفق.‏ بقيت متشوقاً لما سيحكيه لي سعدي بيك، ولم يبرح خيالي مشهد وجهه الغاضب وهو الرجل اللبق المهذب ذو الأعصاب الباردة. إذن فقد حدث معه شيء ما في غضون الأسبوعين اللذين قضيتهما طريح الفراش.‏ التقينا في المساء عند جسر مرفأ “قاضي كوي”. قال لي:‏ ـ يحسن بنا ألا نستقل هذه العبّارة.‏ فهمت أنه يريد انتظار العبّارة التالية خشية التعرض لسخريات معارفه اللذين يستقلون هذه العبّارة.‏ كان ثمة بائعو سمك طازج على القوارب، اشترى منهم سعدي بيك كيلو ونصف من السمك، تمشينا لبعض الوقت على المرفأ، ثم ركبنا عبّارة الثامنة وعشر دقائق. السمك المبلل كاد يثقب أسفل الكيس الورق الذي تشبّع بالماء. وهكذا جلسنا فوق السطح وسعدي بيك يمسك بكيس السمك بحرص. قال لي:‏ ـ أنت لا تعرف إذن؟‏ في تلك اللحظة قال أحدهم:‏ ـ كيف الطقس اليوم يا سعدي بيك.‏ نهض سعدي بيك من مكانه دون أن يتفوه بكلمة واحدة. هبطنا معاً إلى الأسفل وقصدنا مؤخّر العبّارة حيث استند سعدي بيك إلى الدرابزين وجلست على المقعد الخشبي المجاور، وقد أمسك بكيس الورق بحرص شديد. قال لي:‏ ـ إياك وإياك! إذا فتح أحدهم حديثاً عن الطقس فاهرب منه على الفور! فإذا حدث وسألك عن الطقس فلا تنبس ببنت شفة، فليسأل ولكن لا تجبه. ذلك أنهم يبدؤون الكلام بهذه الطريقة أي بالسؤال عن أحوال الطقس ثم يستدرجون المرء ويقحمونه في ورطة. الرجل الذي أمامك يبدأ بكلمة الطقس فلا ترى خطراً في الحديث عن أحوال الطقس. بعد ذلك ينتقل من الطقس إلى الماء وإذ بموضوع الحديث ينزلق إلى الأرض. ثم… وإذ بك متورطاً بلا وعي في حديث… إياك! انتبه حماك الله… ها أنت في ورطة…‏ حدث ذلك منذ حوالي عشرة أيام… ركبت القطار من محطة “أرن كوي” كعادتي كلّ يوم. جاء شخص وجلس بجانبي. مضى بنا القطار بضع دقائق ونحن صامتان. ثم قال الرجل:‏ ـ الطقس يزداد سوءاً هذه الأيام.‏ لم أتفوه بكلمة لأنني لا أحبّ الناس الفضوليين من أمثاله. قال بعد قليل:‏ ـ الجوّ ينذر بالسوء، أليس كذلك يا سيدي؟‏ خجلت من الاستمرار بالصمت فقلت له:‏ ـ نعم.‏ لعنة الله عليّ إن كنت تفوّهت بأية كلمة أخرى.‏ بعد ذلك قال الرجل:‏ ـ يبدو أنها لن تمطر أبداً هذا العام.‏ الرجل يمد صحنه لالتقاط الكلام من فمي وأنا أجيبه بالصمت.‏ ـ أليس كذلك يا سيدي؟ الظاهر أنها لن تمطر أبداً هذا العام.‏ لا أخرجني الله حياً من هذه العبّارة إن كنت أكذب عليك، لقد أجبته بكلمة واحدة أيضاً:‏ ـ نعم.‏ وكيف أقول “لا” يا أخي؟ فهو يقول لي: “يبدو أنها لن تمطر”، فهل أرد عليه بالقول:‏ “لا، سوف تمطر”؟ فما أدراني إن كانت ستمطر، أم لا؟ هذه المرة انتقل الرجل إلى الحديث عن الماء، قال:‏ ـ لدينا شح في الماء… الوضع سيئ جداً‏ أنا صامت.‏ ـ أليس كذلك يا سيدي، لدينا شح في الماء؟‏ ـ نعم.‏ ـ إذا لم تهطل الأمطار سنشهد محلاً. هذا العام لدينا محل. يقال إن الأناضول تحترق من الجفاف.‏ ثم يضغط عليّ لأؤكد على كلامه:‏ ـ أليس كذلك يا سيدي؟‏ ـ نعم.‏ ـ سوف نضطر لشراء القمح من الخارج.‏ عندما رأى أنني لم أقل شيئاً، ألحّ قائلاً:‏ ـ سنشتري، أليس كذلك يا سيدي؟‏ ـ وهل أنا وزير التجارة يا أخي؟ مالي أنا إن اشترينا قمحاً أو شعيراً‏ ـ سنشتري أليس كذلك يا سيدي؟‏ ـ نعم.‏ ـ لا يمكن إدارة الأمور على هذه الصورة. إن الحكومة عاجزة عن إدارة هذه الأمور.‏ بدأنا من الطقس و]

]>

اترك رد