حوار المسدس – عدنان الصايغ –

أفأنت تُكره الناس حتى يكونوا مؤمنين

– القرآن الكريم –

· اني لا أحول بين الناس وألسنتهم مالم يحولوا بيننا وبين السلطان.

معاوية بن أبي سفيان – الأمامة والسياسة –

· الألسن التي نتكلم بها مختلفة أما الألسن التي في أفواهنا فواحدة.

– رسول حمزاتوف –

· الصحفي البريطاني يتدرب منذ نعومة أظفاره على الاستماع الى طرفي أو أطراف النزاع أما الصحفي العربي فيعيش على تقاليد داحس والغبراء، فأما داحسي وأما غبراوي.

– فالح عبد الجبار –



ما الجدوى أن أحاورك بالكلمة .. فتحاورني بالمسدس.. فلا حواري يصل إليك، ولا مسدسك يترك لي فرصة أن أتكلم أو فرصة أن تفهم، وبالتالي فكل كلام تحت قوس المسدس يبقى كلاماً خارج قوس الحوار.

ثمة أوطان تتحاور بالدبابات وثمة كتاب يتحاورون بالتقارير الأمنية والخناجر، لكن غالباً ما ينتهي بهم الأمر إلى الفجيعة: أوطاناً أو نصوصاً..

فحوار الطلقة يولّد مزيداً من الطلقات والأحقاد والجهل والجثث .. وحوار التقارير الأمنية يولد مزيداً من السجون والمعتقلين .. وكل هذا يبقى خارج قوس التأريخ .. ذلك أن الأمم لا ترتقي إلا بحضارتها، وحضاراتها لا تتكون إلا برقي ثقافاتها، وثقافاتها لا تأتي إلا من عصارة فكرها، وفكرها لا يأتي إلاّ من حوارها مع الذات والآخر.

أن العصر الذهبي الذي مر بالأمة العربية لم يكن عصراً ذهبياً لو لم تولد فيه مختلف التيارات الفكرية والدينية والسياسية، وتنشب فيه معارك المعتزلة والخوارج والشيعة والسنة والأباضية والمرتجئة والجبرية والقدرية .. والخ .. والخ.

لم يكن عصراً ذهبياً – رغم نواعير الدم – لو لم تفتح دار الحكمة أبوابها لأرسطو وأفلاطون وأبيقراط والسفسطائيين وزرادشت .. والخ .. والخ.

فنشأ مبدأ الحوار بين الكلمة والكلمة والفكرة والفكرة والمعتقد والمعتقد، ورغم بعض حوارات السكين التي سجلها التاريخ، لكنها تبقى – بالقياس إلى حوارنا المعاصر – عصراً ذهبياً، يستطيع فيه رجلاً مثل سعيد بن المسيب أن يقول أمام الملاً: “إذا رأيتم العالم يغشي الأمراء فاحذروا منه فأنه لص” ثم ينزل من المنبر ماشياً إلى بيته مطمئناً، هادئ البال، دون أن يفكر بأن ثمة مسدساً كاتماً للصوت في انتظاره.

غير أن عصرنا لم يعد يتسع لسعيد بن المسيب .. ولا صدور مثقفينا تتسع للحوار، ذلك أن المسدس أسس بنيته الخاصة به حواراً وفكراً ومريدين ومصفقين ومثقفين مهزوزين يتمايلون كالقصب أمام الريح ..

مرة صرخ الكاتب التركي الساخر عزيز نيسين قائلاً: “آه .. منا نحن المثقفين الجبناء” لم يقل ذلك إلا حين أدرك خطورة انهزام المثقف قبل خطورة انهزام السياسي .. فالمثقف يقود وعي الأمة، وهو حين يرتد أو يجبن أو ينهزم فأن ذلك معناه اهتزاز الأمة وسقوطها.. فحضارات الأمم تقوم على وعيها وفكرها وليس على سيفها ورمحها، فقد ينبو السيف وقد تكبو الخيل، فيكون ذلك خسارة معركة، ليس غير، فإذا ظل الوعي متحفزاً وناهضاً، فسرعان ما تستعيد الأمة خسائرها غير أن انكفاء الوعي قد يسبب خسارة أمة وتدهور حضارة لن تُسترد بالسيف أو المال. فالتاريخ كثيراً ما يحدثنا عن آلاف المعارك التي حدثت على ظهر البسيطة بين غالب ومغلوب وهي كلها تنصب في مضمار الصراع حول المال والنساء والأرض والسلطة، غير أن معارك الفكر حفرت نفسها على صفحات التاريخ وتغلغلت في وعي الأمم ووجدانها ، وكانت هي المسار الذي شق للإنسانية طريقاً نحو التقدم والتطور والازدهار.

وكان فرسان الفكر كثيراً ما يسقطون مضرجين بدمائهم قرباناً لحرية الرأي والمعتقد، فيكونون كالشعل المتوهجة في الظلام ينيرون للأجيال دربها الطويل.

أما جبناء الفكر الذين كانوا ينهزمون من أول الشوط فهم السبب وراء عصور الظلام التي مرت بها أمتهم، فهم غالباً ما ينكفئون على أعقابهم نتيجة الخوف، فيزورون التاريخ ويشوهون الحقيقة ويضللون الشعوب. وهم لا يقلون خطورة عن سماسرة الفكر وتجار الكلمة لذلك جاءت صرخة عزيز نيسين لتهز نواقيس الخطر في زمن السبات وخنوع المثقفين لرؤسائهم.

وهذا هو ما يولده المسدس بين الثقافي والسياسي على مر العصور مسوخاً أو جبناء أو شهداء أو صامتين أو منفيين …

عدنان الصائغ

One Comment

اترك رد