راسل: مختارات من “أسس لإعادة البناء الاجتماعي”

الفصل الثاني: الدولة
يبدو أن التفكير الليبرالي قد أخذ يميل في السنوات الأخيرة‎، تحت تأثير النظرة الاشتراكية، إلى منح الدولة سلطة متزايدة مظهرا بعض العداوة نحو مكانة الملكية الخاصة. نجد مقابل ذلك أن النظرة النقابية تظهر عداوة لكل من الدولة والملكية الخاصة معا. أنا أميل إلى الاعتقاد بأن النظرة السنديكالية[1] أقرب إلى الصواب من النظرة الاشتراكية في هذا الشأن وذلك لأن كلا من الملكية الخاصة والدولة، اللتين هما أكثر المؤسسات سيطرة في العالم المعاصر، يزيد من فقدان الحيوية التي يشكو العالم منها بشكل مضطرد. تتعلق هاتان المؤسستان ببعضهما تعلقا وثيقا، ولكن دراستي ستقتصر في الوقت الحاضر على الدولة، وإلى أي حد هي غير ضرورية وضارة، وسأبين كيف يمكن تخفيفها من دون إجراء أية خسارة في منافعها. ولكنني سوف أقدم اقتراحا يرمي إلى تمديد مهام الدولة في نواحٍ أخرى بدلا من تقصيرها.

يمكن أن تقوم بمهام الدولة التي تتعلق بالبريد والتعليم الابتدائي مؤسسات خاصة، ولكن الدولة تقوم بها بدافع من الملائمة. ولكن هناك أمور ثانية يتعذر أن نتصورها في أيد أخرى، ما دام هناك دولة، مثل القانون والبوليس والجيش والبحرية. يختلف الاشتراكي والفردي حول مهام الدولة غير الأساسية إذ يتمنى الاشتراكي تمديدها والفردي تقصيرها. يتفق الاشتراكيون والفرديون على بعض مهام الدولة الأساسية، وهذه هي الأمور التي أرغب في انتقادها لأن المهام غير الأساسية هي، بحد ذاتها، غير جديرة بالاعتراض.

إن الشيء الجوهري في الدولة هو كونها مصب قوى المواطنين مجتمعة. تأخذ هذه القوى شكلين: شكلا داخليا وشكلا خارجيا. يتمثل الشكل الداخلي بالقانون، والشكل الخارجي يتمثل بالمقدرة، التي تتجسد في الجيش والبحرية، على شن حرب ما. تتكون الدولة من جراء ضم قوى كل سكان منطقة معينة تحت إمرة حكومة ما. تستعمل الدولة المتحضرة القوى ضد مواطنيها وفقا لشروط يعينها القانون الجزائي. أما استخدام القوة ضد الغرباء فلا تضبطه أية أنظمة أو قواعد، بل يترك، باستثناء بعض الحالات الخاصة، إلى تقلبات المصلحة القومية أكانت هذه حقيقة أم وهمية.

ليس من شك في أن القوة التي تستخدم طبقا للقواعد والقانون هي أقل أذى من القوة التي تحركها الأهواء. فلو تسنى للقانون الدولي أن يسيطر على عواطف الولاء عند الناس سيطرة كافية في تنظيم العلاقات بين الدول، لأحرزنا تقدما كبيرا على وضعنا الحالي. الفوضى البدائية التي تسبق تشكيل القانون هي أسوأ من أسوأ القوانين. أنا أعتقد أن من السهل إيجاد منزلة تعلو على القانون، نتمتع فيها بذات المنافع التي يمكن ان نحصل عليها من خلال القانون ومن دون أية خسارة في الحرية ومن دون التعرض لذات المضمار التي يجعلها القانون أو البوليس محتمة. من المحتمل أن يكون وجود بعض قوى الاحتياط ضروريا ولكن استخدام القوة الفعلي يصبح نادرا كما تصبح درجة القوة المطلوبة ضئيلة. إن الفوضى التي تسبق القانون تعطي حرية إلى الرجل القوي فقط، ولكن الحرية التي نطمح إليها تجعل كل فرد تقريبا حرا. نستطيع تحقيق مثل هذه الحرية ليس بمحو وجود القوة المجهزة محوا كليا، بل بوضع أكبر حد ممكن لمناسبات استخدامها.

يحد سلطة الدولة داخليا الخوف من الانقلاب وخارجيا الخوف من الانهزام في الحرب. وإذا صرف النظر عن هذه المخاوف، فسلطة الدولة مطلقة. يمكن أن تستولي الدولة في الواقع من خلال الضرائب على ممتلكات الناس، كما يمكنها أن تحدد قانون الزواج والميراث، وأن تعاقب التعبير عن الآراء التي لا تعجبها، وأن تنكل بمن يطالب بضم مقاطعته إلى دولة أخرى، وأن تأمر كل ذكر ذي بنية سليمة بالسير إلى الحرب كلما وجدت أن شن الحرب هو في صالحها. وفي نواحٍ أخرى متعددة تعتبر مخالفة أهداف الدولة وآرائها جريمة. لربما كانت أميركا وبريطانيا قبل الحرب أكثر دول العالم تمتعا بالحرية، ولكن حتى في أميركا لا يسمح لأي مهاجر أن يطأ أرضها قبل أن يعترف بعدم إيمانه بالفوضوية السياسية وتعدد الأزواج، بينما كان الناس في إنكلترا في السنوات الأخيرة يزجون في السجون لمجرد إعلانهم عن مخالفتهم للديانة المسيحية[2]، أو لموافقتهم لتعاليم المسيح[3]. يعتبر كل انتقاد للسياسة الخارجية عملا إجراميا. فإذا رغبت الأكثرية، أو أصحاب السلطة الفعلية، في شيء ما، كان من المفترض أن كل من لا يرغب في ذلك الشيء تعرض لأشنع أنواع العذابات والعقوبات مثل العذابات والعقوبات التي تعرض لها الهراطقة[4] في الماضي. إن مدى الطغيان الذي يطبق في هذه الحالة يتوقف على مدى نجاحه. قليل من الناس يحجم عن فتح باب الاضطهاد عندما يتأكد أنه سيكون اضطهادا ساحقا.

خدمة العلم الإلزامية ربما هي المثل الأقصى عن قوة الدولة والشاهد الأول عن الفرق بين نظرتها إلى مواطنيها ومواطني الدول الأخرى. تجازي الدولة بصرامة تامة كل من يقتل مواطنيه وكل من يرفض قتل مواطني الدول الأخرى. وبوجه عام يعتبر الوضع الأخير جريمة أسوأ. إن الحرب ظاهرة مألوفة ويفشل الناس في ملاحظة غرابتها، إنها في الواقع تبدو لِمن يعيش طبقا لغرائزه الحربية طبيعية ومعقولة، أما من يأبى أن يعيش وفقا لتلك الغرائز، فيجد استغرابه للحرب ينمو بشكل مألوف تماما. من المدهش كيف تتساهل أكثرية الناس بوجود نظام يجبرهم على الخضوع لأهوال المعركة في أية لحظة تشاؤها حكوماتهم. يجد الفنان الفرنسي غير العابئ بالسياسة والمنكب على لوحاته فقط، نفسه فجأة مدعوا لقتل الألمان الذين هم، كما يؤكد له رفاقه، سخطة على الجنس البشري كله. وكذلك يجد الموسيقي الألماني نفسه مدعوا لقتل الفرنسي الخداع. فلماذا لا يستطيع الاثنان أن يتركا الحرب إلى أولئك الذين يهوونها ويشهرونها؟ والفظاعة في الأمر أنه إذا أعلن الفنانان حيادهما، قتلهما على الفور بقية المواطنين: أما إذا حاولا التخلص من هذا المصير، أرغما على قتل أحدهما الآخر. فإذا خسر العالم الفنان وبقي الموسيقي حيا فرحت ألمانيا أما إذا خسر العالم الموسيقي وليس الفنان، ابتهجت فرنسا. ولكن لا أحد يفتكر أن خسارة الحضارة متساوية أيهما قتل.

إن سياسة كهذه هي سياسة “بدلامية”[5] جنوبية. فلو سمح للفنان وللموسيقي بأن يتجنبا الحرب، لحصدت البشرية خيرا كليا. إن سلطة دولة، تجعل ذلك التجنب مستحيلا، هي شر كلها كسلطة الكنيسة حينما كانت تدفع الناس إلى الجحيم لمجرد أن أفكارهم غير مستقيمة. لو نشأت في أيام السلم منظمة دولية تمثل فيها الألمان والفرنسيون بأعداد متساوية وأقسموا على أن لا يشتركوا في الحرب، لوجدت تلك المنظمة اضطهادا متساويا من كلا الدولتين: الفرنسية والألمانية. يطيع المواطنون المعاصرون بلدانهم الديمقراطية طاعة عمياء ويظهرون رغبة غير محدودة في القتل والاضطهاد، كما كان يفعل تماما جيش الانكشارية عند السلاطنة العثمانيين والعملاء السريون عند الطغاة الشرقيين[6].

يمكن أن تؤثر سلطة الدولة ليس من خلال القانون فقط، بل من خلال الرأي العام أيضا، كما هي الحال في إنكلترا. تكون الدولة، بواسطة الخطابة والصحافة، الرأي العام تكوينا شبه تام. والرأي القاسي هو عدو الحرية، وعداوته ليست بأٌقل وطأة من عداوة القوانين المجحفة. إذا وجد الفتى الذي يرفض أن يذهب إلى الحرب، نفسه مصروفا من عمله، مهانا في وسط الشوارع، متجنبا من رفاقه ومزدرى من صاحبته، فسيشعر أن العقاب صعب الاحتمال صعوبة الحكم بالإعدام[7]. لا يتطلب المجتمع الحر حرية قانونية قط، بل كذلك رأي عام متساهل وغياب ذاك التدخل الغريزي في شؤون جيراننا الذي يتيح المجال، تحت ستار المحافظة على وضع خلقي عال، أمام أناس حسني النية لكي يشبعوا، بلا وعي منهم، ميلهم إلى القسوة والاضطهاد. ليس اتهام الآخرين بالسوء بحد ذاته سببا لأن نظن الخير في أنفسنا. ولطالما تبقى هذه الحقيقة غير مفهومة، ولطالما تقدر الدولة أن تكون الرأي العام باستثناء بعض الحالات حيث تكون الدولة ثورية، فمن الضروري أن يحسب الرأي العام كأنه جزء مما يؤلف سلطة الدولة.

تستمد الدولة، على الأرجح، سلطتها في خارج حدودها من الحرب أو التهديد بالحرب. تستطيع أيضا فرض سطوتها خارجيا من خلال قدرتها على إقناع مواطنيها بإعطاء قروض إلى البلدان الأخرى أم لا، ولكن هذه السطوة لا تعتبر شيئا مهما إذا ما قيست بقوتها المستمدة من الجيوش والبحرية. إن أعمال الدولة الخارجية هي أنانية، فيما عدا بعض الحالات النادرة التي لا تستأهل أن تذكر. تحد في بعض الأحيان الحاجة إلى الاحتفاظ بعلاقة طيبة مع الدول الأخرى من الأنانية، ولكن هذا التعديل يطرأ على الأساليب المستخدمة لتحقيق الأهداف وليس على الأهداف ذاتها. الأهداف المبتغاة، بصرف النظر عن الحاجة إلى الدفاع عن النفس في وجه الدول الأخرى، هي مناسبات للاستثمار الفعال للدول الضعيفة أو غير المتحضرة من ناحية، ولتضخيم العز والسيادة التي تعتبر شيئا أكثر مجدا وأكثر تعاليا من الأموال، من ناحية أخرى. لا تتوانى أي دولة في سبيل تحقيق هذه الأهداف عن قتل العديد من الأجانب الذين لا تتناسب سعادتهم مع الاستعمار والخضوع أو عن تخريب المقاطعات التي يظن أن من الضروري أن يصيبها الهلع. ارتكبت هذه الفظائع كل الدول الكبيرة وبعض الدول الصغيرة، ما عدا النمسا التي لا تنقصها الإرادة وإنما المناسبة خلال السنوات العشرين الماضية باستثناء الحرب الحاضرة[8].

لماذا يرضخ الناس لسلطة الدولة؟ هناك أسباب متعددة يعود بعضها إلى التقليد وبعضها الآخر يرجع إلى أشياء حاضرة وحرجة جدا.

السبب التقليدي لطاعة الدولة هو الخضوع الشخصي للسلطان أو الحاكم. نمت الدول الأوروبية على مخلفات النظام الإقطاعي إذ أن أراضيها كانت مقاطعات يمتلكها سادة الإقطاع. اندثر مصدر هذه الطاعة التقليدية وربما لم يبق له وجود إلا في اليابان وإلى درجة ما في روسيا.

لكن لا يزال الإحساس القبلي، أو العصبية، الذي كان دائما أساس طاعة الحاكم، قويا وهو يشكل الآن الدعامة الأولى لسلطة الدولة. يجد كل إنسان تقريبا أن من الضروري لشعوره بالسعادة أن يكون عضوا في جماعة تحركها صداقات وعداءات مشتركة وتتلاحم سوية في الدفاع وفي الهجوم. ولكن هناك نوعان من هذه الجماعات التي هي مكبرات عن العائلة، والجماعات التي تبنى على هدف مشترك مدروس. ترجع الأمم إلى الفئة الأولى والكنائس إلى الفئة الثانية. فعندما تهيج الناس عقائد دينية، فغالبا ما تتبخر الفوارق القومية، كما حصل في الحروب الدينية بعد حركة الإصلاح. في هذه الحالة تصبح العقيدة الدينية رابطا أقوى من الوطنية المشتركة. مع قدوم الاشتراكية إلى العالم المعاصر، حصل وضع كهذا، ولكن إلى درجة أقل. ففي الناس الذين لا يؤمنون بالملكية الخاصة بل يشعرون أن الرأسمالي هو عدوهم الحقيقي رابطة تعلو على الفوارق القومية. لم يظهر بعد ما إذا كانت تلك الرابطة هي من القوة بحيث تستطيع مقاومة الميول التي تغذي الحرب الحاضرة، ولكن ما ظهر منها يدل على أنها جعلت ميول الاشتراكيين إلى الحرب أقل حدة من غيرهم وبهذا أحيت الأمل بإعادة بناء مجتمع أوروبي بعد انتهاء الحرب. لكن الرفض الشامل، بوجه عام، لكل العقائد الدينية ترك الشعور القبلي منتصرا والشعور القومي أقوى مما كان في أي حقبة من التاريخ. لقد أنِس بعض المسيحيين المخلصين والاشتراكيين الصادقين قوة في معتقداتهم، قادرة على مقاومة هجمات الشعور القومي ولكنهم كانوا قلة ضئيلة لم تستطع تغيير مجرى الحوادث أو تسبيب قلق فعلي للحكومات.

يولد الشعور العصبي الوحدة في الأمة بشكل رئيسي، ولكنه لا يولد قوتها بمفرده. تتولد قوة الأمة بشكل رئيسي من تخوفين اثنين من دون أن يكون أيهما بعيدا عن العقل: أولا الخوف من تفشي الجريمة والفوضى في الداخل، وثانيا الخوف من الاعتداء الخارجي.

إن الاستقرار الداخلي في مجتمع متحضر هو إنجاز كبير والدولة هي المسؤول الأول عن إيجاده. كم هو مزعج أن يجد المواطنون الآمنون أنفسهم في حالة دائمة من الخوف والجزع على ممتلكاتهم وأرواحهم؟ إذا ما جهز هواة المغامرات جيوشا خاصة للنهب والسرقة، أصبح الأمل بحياة راقية مستحيلا. لقد ولت ظروف هذه المغامرات مع القرون الوسطى وما كان مضيها بغير مقاومة شرسة. ولا يزال الاعتقاد شائعا حتى الآن، وخاصة بين الأثرياء الذين يستفيدون أكثر ما يمكن تحت ظل النظام والقانون، ان أي انخفاض في سلطة الدولة يقود إلى فوضى عامة. فينظرون إلى الاضطرابات كأنها طلائع الفتك الاجتماعي وترتعد فرائصهم لرؤية منظمات مثل الفيدرالية العامة للعمل (Confederation Generale du Travail) والاتحاد العالمي للعمال (International Workers of the World) يتذكر أصحاب ذلك الاعتقاد الثورة الفرنسية فيرتعدون ويتلمسون رؤوسهم إذ أنها الشيء الوحيد الذي يرغبون في المحافظة عليه. يرهبون بشكل خاص كل نظرية يبدو أنها تجد عذرا للجرائم الخاصة كأعمال التخريب (sabotage) والاغتيال السياسي. لا يجدون حماية من هذه المخاطر إلا في قوة الدولة ولهذا يعتقدون أن كل مقاومة للدولة هي شر بحد ذاتها.

يزيد الخوف من الاعتداء الخارجي الخوف من خطر داخلي. كل دولة هي معرضة في كل وقت لخطر الغزو من الخارج. لم تبتدع حتى الآن أي وسيلة لتخفيف ذلك الخطر سوى وسيلة التسابق في التسلح. ولكن السلاح الذي يراد به دفع الغزو الخارجي هو نفس السلاح الذي يمكن أن يستخدم للغزو. هكذا نجد الوسيلة التي يمكن أن تزيل الخوف من الغزو الخارجي هي ذات الوسيلة التي يمكنها أن تزكيه وبالتالي تجعل الحرب إذا ما وقعت بالفعل ذات مفعول هدام. وبهذا تنزل بالناس حالة من الرعب وتأخذ الدولة في كل مكان صفة المجالس الثورية (Comité du Salvt Public).

إن الشعور الذي تنمو منه الدولة هو شعور طبيعي، ولهذا نجد الخوف على الدولة معقولا في الظروف الحاضرة. بالإضافة إلى هذين المصدرين لقوة الدولة، هناك مصدر آخر ألا وهو الوطنية المتطرفة والمشابهة للغيرة الدينية.

الوطنية هي شعور مركب مبني على غرائز أولية ومعتقدات سامية. يدخل في تركيب الشعور الوطني حب المنزل والعائلة والأصحاب الذي يجعلنا حريصين جدا على المحافظة على وطننا من الغزاة، ومحبة غريزية نضفيها على المواطنين ونمنعها عن الأجانب، وافتخار بنجاح مجتمعنا الذي نشكل جزءا منه. يعتقد كل إنسان اعتقادا يزكيه حب الافتخار ويثبته التاريخ بأن وطنه يمثل تقليدا عظيما ويقف بجانب المثل التي تهم الجنس البشري كله. ولكن هناك بالإضافة إلى كل هذا، عنصر هو في الوقت نفسه أكثر نبلا وأكثر تعرضا للمهاجمة، هو عنصر العبادة، عنصر الإرادة المضحية، عنصر الفرح بذوبان حياة الفرد في حياة الأمة. يشكل هذا العنصر الناحية الدينية في الوطنية التي هي أساسية لقوة الدولة ويضع أفضل شيء في حياة الناس تحت لواء التضحية في سبيل الأمة.

يزكي التعليم العنصر الديني في الوطنية وخاصة دراسة تاريخ وأدب الأمة التي ننتمي إليها، لا سيما حينما تكون غير مرفقة بدراسة لتاريخ الأمم الأخرى وآدابها. يشدد في تعليم النشىء، في كل الأمم المتحضرة، على حسنات أمتهم وسيئات الأمم الأخرى. فيؤمن الفرد بأن أمته تستحق الدعم في أي نزاع، مهما كان سبب نشوئه، لأنها أمة متفوقة. يصبح هذا الإيمان طبيعيا جدا لدرجة أنه يجعل الناس تحتمل كل الخسائر. هذا الإيمان، الذي يشابه الإيمان في الديانات المقبولة بكل صدق وطواعية، هو نظرة شاملة للحياة مبنية على غريزة متعالية (sublimated) تدفع إلى التعلق بغاية تعلو كل غاية شخصية، غاية تحتوي على غايات شخصية متعددة كما لو كانت في حالة انصهار.

إن الوطنية كديانة هي غير مُرْضيَة إذ ينقصها الشمول الكلي. الخير الذي ترمي إليه الوطنية هو خير أمة الفرد منا وليس خير العالم أجمع. والرغائب التي توحيها الوطنية في الرجل الإنكليزي هي غير الرغائب التي تكشفها للألماني. ولذلك يصبح العالم الممتلئ بالوطنيين عالم نزاع وصراع. وكلما اشتد إيمان الأمة بوطنيتها اشتدت لا مبالاتها بنكبات الأمم الأخرى. عندما يتعلم الناس إخضاع خيرهم لخير مجموعة أكبر، لا يبقى أي سبب شرعي يمنعهم من معانقة الجنس البشري بأسره. ما يجعل ميول الناس إلى التضحية تتوقف عند حدود وطنهم هو في الواقع (admixture) دفعة من التكبر القومي. وهذه الدفعة تسمم القومية وتجعلها فيما إذا قيست بالمعتقدات التي تهدف إلى خلاص البشرية جمعا، ديانة دنيا. نحن لا نستطيع أن نهرب من الحقيقة، كلنا يحب وطنه أكثر من بقية الأوطان الأخرى، وليس من مبرر لهذا التهرب كما ليس من مبرر لافتراض أن من الضروري أن تحب كل النساء والرجال في العالم بشكل متساو. ولكن واجب كل ديانة على أقل تعديل، الديانة التي تحترم ذاتها، أن تقودنا إلى أن نعرف كيف نوفق بين محبتنا للأفراد غير المتساوية وبين شعورنا بإنصافهم، وأن نعرف كيف نجعل أهدافنا عالمية لنحقق مطالب يشترك فيها كل إنسان. لقد أدخلت المسيحية هذا التغيير على اليهودية، ومن الضروري أن يدخل هذا التغيير على أي وطنية دينية قبل ما تنفى من شرورها الأخرى.

يتصدى للوطنية، في الواقع أعداء كثيرون. فنمو الكوسموبوليتية[9] شيء محتم بسبب التعرف على البلدان الأجنبية من خلال التعليم والتجول. وبالإضافة إلى ذلك هناك نوع من الفردية التي تنتشر باستمرار، فردية مبنية على الاعتقاد بأن كل إنسان يجب أن يملك أكبر قدْر من الحرية لاختيار غايات هو المسؤول الأول عن تحديدها وليس غايات يفرضها عليه وجوده العرضي في بيئة معينة. تقف الاشتراكية والسنديكالية وكل حركات مقاومة الرأسمالية بشكل عام ضد الوطنية، وتذكر هذه الحركات الناس بأن الدولة تدافع حاليا أول ما تدافع عن امتيازات الأغنياء ولهذا يرجع كثير من الاختلاف بين الدول إلى المصالح المالية لحفنة قليلة من الحكام الأثرياء. قد تكون مقاومة تلك الحركات للوطنية مقاومة وقتية، أو قد تكون إحدى نقاط الصراع العمالي من أجل الاستيلاء على السلطة ليس الا. إننا نرى أستراليا حيث أحرز العمال انتصارا لا خوف عليه من الاندحار، مملوءة بالتعصب الوطني والعسكري، ويرجع هذا التعصب إلى إصرار العمال على منع العمل الأجنبي مشاركتهم أرباحهم الناتجة عن وضعهم المتميز. وإذا أصبحت إنكلترا دولة اشتراكية، فلا يبعد عن التصور أبدا أن تملأها موجة مماثلة من التعصب القومي مع فارق وحيد إذ من المحتمل أن تكون قومية دفاعية فقط. قلما ترسم خطط الغزو الخارجي، التي تؤدي إلى خسارة فادحة في حياة الأمة المهاجمة، إلا أيدي أولئك الذين تغذت غرائز حب السيطرة فيهم على السلطة المتولدة من الملكية الخاصة ومن مؤسسات الدولة الرأسمالية.

إن الشر الذي أصاب العالم المعاصر بسبب طفحان كيل سلطان الدولة هو كبير جدا، والغريب في الأمر أن لا يدري به غير القليلون.

إن أهم الأضرار التي تجلبها الدولة هي جعل الحرب شديدة الفعالية. فإذا زادت كل دولة قوتها العسكرية، لا يتغير ميزان القوى ولا تحصل لأي منها مناسبة للانتصار أكبر مما كانت قبل. عندما توجد وسائل الهجوم، تصبح الرغبة في الهجوم عاجلا أم آجلا مغرية جدا حتى ولو كان الهدف الأولي من إيجادها دفاعيا فقط. هكذا تؤدي الوسيلة التي تجلب الأمن في الداخل إلى عدم الأمن في الخارج. إن منع استخدام العنف في الداخل وتحريضه في الخارج هما من جوهر الدولة. تضع الدولة فاصلا اصطناعيا بين الناس وبين واجباتنا نحوهم. فنحو مجموعة ما نحن مقيدون بالقانون ونحو مجموعات أخرى لا تقيدنا إلا دراية قطاع الطرق. إن ما يجعل الدولة شرا هو تفضيلها مجموعة ما على مجموعات أخرى، أضف إلى ذلك أنه عندما تأخذ الدولة شن حرب عدوانية على عاتقها، يصبح رجالها مزيجا من القتلة واللصوص. إن جهاز الدولة الحاضرة لا تتحكم به أي ظاهرة من ظواهر العقل والمنطق لان الفوضى (Chaos) الداخلية والفوضى الخارجية يجب أن يكون كلاهما صوابا معا أو خطأ معا. لكن هذا الجهاز يجد دعما من الجميع لأنهم يعتقدون بأنه الطريق الوحيدة إلى الأمان ولأنه يولد لذة الانتصار والسيادة التي لا يمكن أن يتم الحصول عليها في مجتمع حسن. فلو تخلى الناس عن طلب تلك الملذات، أو لو استحال الحصول عليها، لسهل إيجاد حل لمشكلة الخوف من الغزو الخارجي.

إن الدولة المعاصرة، بصرف النظر عن الحرب، ضارة وذلك بسبب كبرها الذي يرهب الفرد ويذهله. لا يقدر المواطن، الذي لا ترضيه أهداف دولته، أن يتأمل في إقناعها بتبني غايات تظهر له أفضل من غاياتها، إلا إذا تمتع بمواهب نادرة. يحل، في البلدان الديمقراطية، عدد قليل من المواطنين البارزين كل المشاكل ما عدا جزء بسيط منها. ويترك تقرير ما تبقى من مشاكل إلى نتائج الاقتراع العام الذي تسوده فوضى الجماهير المتحمِّسة، لا الانطلاقة الفردية. تظهر هذه الحقيقة في دولة مثل الولايات المتحدة حيث يشعر أكثر الناس، على الرغم من أنهم يعيشون في بلد ديموقراطي، بعجز شبه تام إزاء كل المسائل الكبيرة. في دولة بمثل هذا الحجم، تعتبر الإرادة الشعبية كإحدى القوى الطبيعية وتصبح كتلك القوى خارجة عن نطاق سيطرة الإنسان. تقود هذه الحالة، ليس في أميركا وحدها بل في كل الدول الكبيرة، إلى الكلل وضيعان الشجاعة التي نقرنها بأواخر عهد الإمبراطورية الرومانية. تترك الدول الحديثة مجالا صغيرا للانطلاق الفردي إذا ما قيست مع الدول الصغيرة في اليونان القديمة وفي إيطاليا القرون الوسطى، ولهذا فهي تعجز عن تنمية شعور الناس بقدرتهم على توجيه مصيرهم السياسي. من يحصل على السلطة في الدول الحديثة هم رجال ذوو طموح يفوق العادة، رجال متعطشون إلى تلك السيطرة الممتزجة بصناعة الحنكة في السياسة واصطناع الغموض في المفاوضات. وما تبقى من الناس يقصف طموحهم شعور بالعجز (وعدم المقدرة) وثبوط العزيمة.

من المخلفات التركية التي تركها لنا التفكير الملكي القديم عن الدولة الاعتقاد بأن، في رغبة أي جزء من الشعب في الانسلاخ عن بقية الأمة، شيئا فريدا شره، فلو رغبت أيرلندة أو بولندة بالاستقلال، فمن المحتم أن تقاوم هذه الرغبة بشدة وأن تعتبر أي محاولة لتحقيقها “خيانة عظمى”. إن المثل الوحيد المخالف الذي أستطيع أن أتذكره هو انسلاخ النرويج عن السويد التي وجدت من يشجعها ولكن لم تجد من يقلدها.

ليس في حالات أخرى ما يحدو الدول على ضم أراضي دول أخرى سوى الانهزام في الحرب. على الرغم من أن هذا المصير مطمح عام، فليس هو بالشيء الذي يجب أن يتبنى، لو كان للدولة غايات أسمى. يعود سبب هذا التبني إلى أن غاية الدول الكبرى الرئيسية هي السيادة وخاصة السيادة في الحرب. وغالبا ما تزداد السيادة في الحرب بالسيطرة على مواطنين غير قانعين بتلك السيطرة. لو كانت سعادة المواطنين غاية بحد ذاتها، لتركت مسألة ضم مقاطعة ما أو عدم ضمها طوعا إلى قرار تلك المقاطعة نفسها. لو تتبنى كل دولة مثل هذه الغاية، لانعدم أهم سبب في الحروب وزال العامل الأكثر أذى في الدولة.

يرجع مصدر الأذى في الدولة إلى أن السيادة هي غايتها الرئيسية. تختلف الحال عن هذا في أميركا لأن أميركا في منأى من الغزو الخارجي[10]، ولكن غاية الدول الرئيسية في كل الدول الباقية هي الحصول على أكبر قدر ممكن من القوة الاستعراضية. وبسبب هذه الغاية تكبح حريات المواطنين، والدعاية الموجهة ضد العسكريين تراقب وتعاقب بصرامة. تجد هذه الغاية جذورها في التكبر والخوف: التكبر الذي لا يترك مجالا للمسالمة، والخوف الذي يمقت رؤية تكبر الغرباء المناهض لكبريائنا. إن طغيان هذين الميلين على سياسة الدولة الخارجية هو شيء عرضي تاريخي ولا يعني أن حياة الإنسان العادي السياسية تنبع من هذين الميلين فقط. إقض على التكبر، يقضى على الخوف، لأن خوف أمة ما هو نتيجة للتكبر المزعوم في أمة أخرى. إن التباهي بالسيادة وعدم قبول حل المنازعات إلا باللجوء إلى القوة أو التهديد باللجوء إلى القوة، هي عادة في التفكير تغذيها الشهوة إلى السلطة بدرجة كبيرة. إن أولئك الذين يتمرسون على السيادة ثم يتفردون بها، يصبحون سريعي الغضب وغير قادرين على اعتبار أي إنسان مواز لهم إلا كمنافس. يذيع الصيت بأن اجتماع الرؤساء يحفل بالمخالفات أكثر من كل المجالس الأخرى. يحاول كل رئيس مجلس أن يعامل الرؤساء الآخرين كما يعامل مستخدميه، لكنهم يمقتون معاملة من هذا النوع ومن ثم يمقت مقتهم له. لا يصلح الرجال الذين اعتادوا على السيادة للقيام بمشاورات ودية أبدا. ولكن العلاقات الرسمية بين الدول هي، بشكل رئيسي، في أيدي أناس لهم سلطة كبيرة في بلادهم. هذه هي طبيعة الحال وبشكل خاص أينما وجد ملك ذو سلطة فعلية. ولكنها تقل صحة عندما تتولى الحكم جماعة صغيرة وتقل صحتها أيضا أكثر فأكثر عندما تتفتح الطريق أمام ديموقراطية صحيحة. إن هذا الصيت صحيح إلى درجة بعيدة لأن رؤساء الوزراء ووزراء خارجية كل الدول هم بحكم الضرورة أناس ذوو سيادة. الخطوة الأولى لإصلاح هذه الحالة تتوقف على اهتمام المواطن العادي بالشؤون الخارجية اهتماما صحيحا. والخطوة الثانية هي اقتناعه بأن الافتخار بالوطن لا يجوز له أن يعطل مصالحه الأخرى. عندما تثار حمية المواطن خلال الحرب، يقبل بأن يضحي بكل شيء في سبيل ذلك الافتخار، ولكن يحب أن يكون في أيام السلام أكثر تهيئا من رجال الحكم للاعتقاد بأن الشؤون الخارجية يجب أن تسوى كالشؤون الخاصة بود طبقا لأسس وليس باستخدام القوة أو التهديد باستخدام القوة.

تظهر نتائج التحيز الشخصي جلية، فيمن يشكل حكومة ما، في مناقشاته مع العمال. يؤكد السنديكاليون الفرنسيون أن الدولة ليست إلا حصيلة الرأسمالية وليست إلا إحدى الأسلحة التي يستخدمها رأس المال في منازعاته مع العمال. هناك كثير ما يدعم هذه النظرة حتى في الدول الديمقراطية إذ غالبا ما يستخدم الجنود لقمع الإضرابات العمالية.

وبالرغم من أن عدد المستخدمين هو أقل بكثير من عدد العمال، وبالرغم من أن قمعهم أسهل بكثير، فلا أحد يستخدم القوة ضدهم. عندما تشل المشاكل العمالية صناعة الدولة، يلام العمال على قلة وطنيتهم بينما يبقى سادتهم بعيدين عن الملامة مع العلم أن المسؤولية تقع على عاتق كليهما بشكل واضح. يعود السبب الرئيسي لموقف الحكومات هذا إلى أن الرجال الذين يؤلفونها ينتمون، إن لم يكن من خلال نجاحهم الشخصي، فمن خلال أصلهم العائلي، إلى ذات الفئة التي يتشكل منها كبار أرباب العمل. إن تحيز أفراد الحكومة نحو أرباب العمل ومعاشرتهم لهم تتضافر معا لتجعل الحكومة تنظر إلى إضرابات العمال وإلى امتناعهم عن العمل من وجهة نظر الأغنياء. يتكاتف الرأي العام مع حاجة الحكومة إلى دعم شعبي لسياستها في تصحيح مؤثرات الطبقة الثرية في البلدان الديمقراطية، ولكن يبقى هذا التصحيح جزئيا دائما. ان المؤثرات التي تغطي وجهات نظر الحكومات في المسائل العمالية هي نفس المؤثرات التي تغلف وجهات نظرها في الشؤون الخارجية مع إضافة فارق واحد، ليس في صالح المواطن العادي، وهو أن الوسائل التي تمكنه من تشكيل رأي مستقل في السياسة الخارجية تبقى بعيدة جدا عن متناول يده.

إن أهم أسباب البؤس في العالم العصري، بل وأحد أهم عوامل الرعب الذي يطغى على الناس ويمنع نموهم العقلي إلى درجة اكتماله، هو تضخم سلطة الدولة الناتج عن تعسفها في الداخل، وبشكل أهم، عن الحرب أو الخوف من الحرب. ثمة وسيلة يجب أن توجد لمعالجة هذا التضخم في سلطة الدولة إذا ما أريد للناس ألا يندفعوا زرافات في هوة اليأس كما حدث زمن الإمبراطورية الرومانية.

للدولة، على وجه العموم، غاية نبيلة ألا وهي وضع القانون في مجال التعاون بين الناس موضع القوة. لكن لا يمكن أن تتحقق هذه الغاية بشكل تام إلا إذا وجدت دولة عالمية المدى تبقى العلاقات الدولية من دونها بعيدة عن مجال القانون. وعلى الرغم من أن القانون أفضل من القوة بكثير، فالقانون ليس أفضل طريقة لحل المنازعات. القانون جامد لدرجة كبيرة وأكثره يدافع عما هو في سبيله إلى الزوال والقليل المتبقي منه يدافع عما هو في سبيل النمو. ولطالما يبقى القانون صاحب السيادة نظريا، فلا بد أن تحصل، من وقت إلى آخر، ثورات داخلية أو حروب خارجية تفرض تعديله. لا يمنع حدوث هذه المعدلات سوى الاستعداد المستمر لتغيير ميزان القوى الحاضرة. وإذا لم يتم هذا التغيير، فلن يكون هناك أي أمل في مقاومة دوافع اللجوء إلى القوة، ستحل الدولة العالمية أو المتحد الفيدرالي الدولي، إذا أتيح لها النجاح، الأزمات، ليس على نسق المراسيم القانونية التي تطبقها محكمة لاهاي العليا[11]، بل بقدْر المستطاع على نفس الطريقة التي يمكن أن تقررها الحرب. إن مهمة السلطة هي جعل اللجوء إلى القوة غير ضروري لأن تصدر قرارات مخالفة للحلول التي يمكن أن تتحقق من جراء استخدام القوة.

وقد يعتقد البعض ان هذه النظرية منافية للأخلاق. وقد يقال ان الحضارة يجب ان تهدف إلى تحقيق العدالة لا إلى إعطاء النصر إلى القوة. لكن إذا سلم أحدنا بهذا الرأي المخالف، لتناسى أصحابه أن حب العدالة ذاته يمكن أن يقدح شرارة اللجوء إلى القوة. سيعطي مجلس تشريعي، يرمي إلى الفصل في قضية ما بنفس الطريقة التي يفصل بها فيما لو كان سيلجأ إلى استخدام القوة، اعتبارا للعدالة بحكم الضرورة، فيما إذا كانت العدالة بشكل لا جدل فيه إلى جهة معينة، حتى أن فئات أخرى محايدة تستعد لحمل السلاح والمدافعة عنها. فإذا اعتدى رجل قوي على رجل ضعيف في شوارع لندن، سيظهر ميزان القوى بجانب الرجل الضعيف لأن لو لم يظهر البوليس للدفاع عنه لانبرى بعض المارة لحمايته. إن من الغباوة بمكان أن نتحدث عن مزاحمة القوة للحق ومن ثم نأمل في انتصار الحق. إذا كانت المسابقة بين القوة والحق مسابقة حقيقية فهذا يعني أن الحق سينهزم. إن المقصود من استعمال هذه اللغة الغامضة هو أن الفئة القوية تستمد قوتها من شعور الناس بأنهم على حق. لكن شعور الناس بالحق هو شيء ذاتي لدرجة كبيرة وليس هو إلا أحد العوامل التي تقرر سيادة القوة. ما هو مرغوب ومنتظر من المجلس التشريعي، ليس مقدرته على التقرير بواسطة الشعور بالحق، بل مقدرته على التقرير بشكل يجعل اللجوء إلى القوة غير ضروري.

طالما أني بحثت فيما يجب على الدولة أن تمتنع عن القيام به، فسأنتقل الآن إلى التحدث عما يجب عليها أن تقوم به.

بصرف النظر عن الحرب وحفظ النظام الداخلي، تحقق الدولة الآن بعض المهام الإيجابية، ولا يزال هناك مهام إيجابية أخرى يفترض بالدولة أن تحققها.

يمكن أن تضع بخصوص هذه الواجبات الإيجابية مبدأين أساسيين:

أولا: هناك مسائل تتعلق برفاهية المجتمع بأكمله وعليها يتوقف حصول كل مواطن على حد أدنى، ويحق للدولة في حالات كهذه أن تلح على تحقيق ذلك الحد.

ثانيا: هناك مناسبات يجب أن تلح الدولة فيها على حفظ النظام. ولكنها إن لم تفعل أكثر من ذلك، لسهلت وقوع مظالم مختلفة من الممكن تجنبها بالسماح لضحايا تلك المظالم بالتعبير عن غضبهم. يجب أن تمنع الدولة قدر المستطاع وقوع مثل هذه المظالم.

إن أبرز مثال عن الشيء الذي تتوقف فيه الراحة العامة على حد أدنى عمومي هو النظافة العامة وحجب الأمراض المعدية. إذا أهملت حالة واحدة من مرض الطاعون، فقد تسبب كارثة للمجتمع بأكمله. لا أحد يدعي بجدية أن إنسانا مصابا بالطاعون يجب، بناء على متطلبات الحرية، أن يبقى حرا يزرع وباءه طولا وعرضا. تنطبق هذه الاعتبارات نفسها على استصلاح الأراضي وعلى انتشار الحمى وعلى بقية الأمور المشابهة. يبقى التدخل في الحريات شرا ولكنه في بعض الحالات أقل شرا من انتشار المرض الذي تتيح الحرية انتشاره. فمحو آثار الملاريا والهواء الأصفر الذي ينتج من جراء قتل البراغيث هو ربما افضل مثل يضرب عن الأشياء الجيدة التي يمكن أن تتم بهذه الطريقة. ولكن عندما يكون الخير المجتنى قليلا أو عندما يكون جنيه غير مؤكد، بينما يكون التدخل في الحريات كبيرا، سيكون من المفضل ساعتئذ ان يحتمل قسم بسيط من الأمراض التي يمكن اتقاؤها على الرضوخ إلى طغيان علمي.

من الضروري اعتبار التعليم الإجباري كالصحة العامة. فوجود حشود جاهلة بين الناس هو خطر على المجتمع. إذ أنه عندما تكون نسبة كبيرة من السكان غير مثقفة، فمن الواجب أن تأخذ كل آلة الحكومة هذه الواقعة بعين الاعتبار. يستحيل وجود الديمقراطية في شكلها المعاصر في دولة حيث جماعة كبيرة لا تحسِن القراءة. ولكن ليس في هذه الحالة ما يدعو إلى إيجاد نفس المستوى العمومي الموجود في الصحة العامة. إن الغجر (النور) الذين أصبحت طريقة حياتهم مستحيلة من جراء السلطات التعليمية، يمكن أن يسمح لهم أن يبقوا حالة شاذة ذات علائم مميزة. ولكن بصرف النظر عن حالات شاذة غير مهمة كهذه، فالحجة التي تدعم الدعوة إلى التعليم الإلزامي لا تقاوم.

ما تقدمه الحكومة الآن من عناية بالأولاد هو أقل مما يجب عليها القيام به، ليس أكثر. لا يستطيع الأولاد رعاية مصالحهم، أضف إلى ذلك أن العناية الوالدية في مسائل شتى هي غير كافية. من الواضح إذن أن باستطاعة الدولة وحدها أن تلح على ضرورة تمتع الأولاد بأقل معدل ممكن من الثقافة والصحة التي يتمناها ضمير المجتمع في الوقت الحاضر.

يأتي تشجيع البحث العلمي كمسألة طبيعية أخرى يجب أن ترعاها الدولة لأن منافع الاكتشافات تعود إلى المجتمع كله، بينما الأبحاث باهظة وليس من المؤكد أنها ستؤدي إلى أي نتيجة من خلال العمل الفردي، وإنكلترا تتأخر عن بقية الدول المتحضرة في هذا الشأن.

النوع الثاني من السلطات الذي يجب أن يكون في حوزة الدولة هو ما يرمي إلى تخفيض الظلم الاقتصادي. هذا هو النوع الذي يشدد عليه الاشتراكيون. يخلق القانون أو يسهل الاحتكارات الفردية، والاحتكارات الفردية تقدر أن تفرض على المجتمع الضريبة التي تريدها. أفظع مثل على هذا هو ملكية الأراضي الخاصة. تسيطر الدولة في الوضع الحالي على شركات سكك الحديد إذ أن الأجور ثابتة بحكم القانون، ومن الواضح انه لو لم تكن تحت سيطرة الحكومة لاكتسبت درجة كبيرة من القوة[12]. لو وجدت هذه الاعتبارات وحدها، لكانت كافية لأن تثبت صحة الاشتراكية الكاملة. ولكن العدالة بمفردها هي، بحسب تقديري، كالقانون عديمة الحركة، ولذا لا تصلح لأن تكون الأساس الأول في السياسة. فهي لا تحتوي على أي بذور لحياة جديدة، ولا على أي دوافع للتقدم حتى ولو أتيح لها أن تتحقق بشكل تام. فلهذا السبب يصبح السؤال، عندما نريد تصحيح ظلامه، عما إذا كان عملنا هذا سيقتل الدوافع إلى الأعمال الحيوية المفيدة للمجتمع هاما جدا. لا تتعلق، حسب اعتقادي، الملكية الخاصة أو أي مصدر للإيجار الاقتصادي بتلك الدوافع الحيوية المفيدة للمجتمع. وإذا كانت الحال كذلك وجب التسليم بأن على الدولة أن تكون القابض الوحيد للإيجارات.

ولكن إذا سلمت كل هذه السلطات إلى الدولة، فماذا يحدث بمحاولة إنقاذ الحرية الفردية من عسف الدولة؟

هذا السؤال هو جزء من المعضلة العامة التي تقف في وجه كل من لا يزال يؤمِن بمثل الليبرالية. والمعضلة هي كيف يتم جمع حرية الفرد ورغبته في الإبداع مع المنظمة. يتزايد في السياسة والاقتصاد تسلط المنظمات الكبيرة تزايدا مخيفا يترك الفرد في وحدة من اليأس المميت. والدول هي كبرى المنظمات وأشدها تهديدا للحرية. وعلى الرغم من هذا التهديد الواضح، فعلى ما يبدو، يجب أن تتشعب مهام الدولة لا أن تتقلص.

هناك طريقة واحدة للتوفيق بين المنظمة والحرية وذلك بمنح سلطات للمنظمات الاختيارية التي تتكون مِمن أراد أن ينضم إليها لكونها تجسد الهدف الذي يعتبره كل الأعضاء أساسيا، لا الهدف الذي يفرض عليهم بحكم الظروف أو بحكم قوة خارجية. ولما كان للدولة كيان جغرافي، فهي لا تستطيع أن تكون اتحادا اختياريا بالكلية. لهذا السبب بعينه وجب إيجاد رأي عام قوي يضعها عند حدها حينما تستخدم سلطاتها بشكل تعسفي. لا يتكون هذا الرأي العام، في اغلب الأحيان، إلا من أناس تجمعهم بعض المصالح والرغائب المشتركة فقط.

يجب أن تنجز أهداف الدولة الإيجابية غير المتعلقة بحفظ النظام منظمات يشترط فيها أن تبقى مستقلة وآمنة من تدخل الدولة طالما لا تنزل تحت الحد الأدنى الضروري الذي تطلبه الدولة. يتم حاليا إنجاز هذا الشرط إلى درجة ما في التعليم الابتدائي. يمكن اعتبار الجامعات أيضا كأنها تحل مكان الدولة فيما يختص بالتعليم العالي والأبحاث العلمية، غير أنه في هذه الحالة لا يطلب إنجاز أي حد أدنى. يجب أن تحتفظ الدولة بقدرتها على الضغط في الحقل الاقتصادي، ولكن يجب عليها أيضا أن تترك أمام الآخرين مجالا للإبداع. ليس هناك ما يمنع تكثير فرص الإبداع وإفساح أكبر مجال ممكن لمقدرة كل شخص على الإبداع. لو لم تسر الأمور على هذا الشكل، لطغى في المجتمع شعور عام بالعجز واسترخاء العزيمة. لهذا يجب أن تترك دائما مهام الدولة الإيجابية في أيدي منظمات اختيارية تشرف الدولة على دقة تصرفها وسلامته كما تشرف على حل المشاكل الداخلية والخارجية التي تحصل بينها حلا وديا. يجب على الدولة أن تظهر، بالإضافة إلى ذلك، أكبر قدر ممكن من التساهل إزاء “الشاذات” وأن تقلع إلى أبعد حد ممكن عن طلب مؤسسات ذوات نمط موحد.

يمكن أن يتضاعف إنتاج المهن والمناطق الزراعية ضمن حكومات محلية. هذه هي أفضل الأفكار التي ابتكرتها النظرة السنديكالية. إنها فكرة بالغة الأهمية لأنها تخدم كلجام للتعسف الذي يميل المجتمع إلى فرضه على بعض الفئات من أعضائه. يجب أن يرحب، تفاديا لعسف المجتمع، بكل منظمة قوية تجسد شطرا من الرأي العام، كالنقابات العمالية والتعاونيات والمهن والجامعات لكونها صمامات أمان للحرية ومناسبات للإبداع. بالإضافة إلى ذلك، يجب أن يكون هناك رأي عام متحمس للحرية. قد يظن أن المعارك القديمة التي شنت في سبيل حرية التفكير وحرية الكلام تم انتصارها بشكل فاصل، ولكن أكثر الناس لا يزال مستعدا لمنح الحرية فقط لتلك الأفكار الشائعة. لهذا يجب أن تخاض المعارك في سبيل حرية التفكير وحرية الكلام من جديد. لا تحترم المؤسسات الحرية إلا إذا وجد أناس يعتبرون الحرية باهظة القيمة وهمْ على أتم الاستعداد لتحمل الضيقات في سبيل المحافظة عليها حية مضيئة.

هناك اعتراض تقليدي على كل قائد وآمر (imperio in imperium) ولكن هذا الاعتراض هو من ابتداع غيرة الحكام الظالمين فقط. إن الدول المعاصرة تضم في الواقع مؤسسات عديدة يستحيل على الدولة التخلص منها إلا في حالات نادرة عندما يتحرك الرأي العام ضدها. لقد كان صراع لويد جورد ضد المهن الطبية حول مرسوم الضمان صراعا محفوفا بتقلبات حظ هوميروسي. كذلك أنهك عمال المناجم في مقاطعة والش في سنة 1915 كل قوى الدولة تدعمهم في ذلك أمة مغتاظة. أما بالنسبة للممولين، فليس من حكومة تحلم بمخاصمتهم. وعندما تناشد الدولة مختلف الطبقات الشعبية بضرورة الشعور بالوطنية، تسمح للممولين بالاحتفاظ بفائدة تبلغ 5و4% وارتفاع في قيمة ممتلكاتهم. يفهم الجميع أن أي مناشدة لوطنيتهم تظهر جهلا كبيرا بحقيقة العالم. إن اقتناص الدولة أموالا من الممولين بالتهديد يرفع حماية البوليس عنهم هو أمر مخالف لتقاليدها. ولا يعود الإحجام عن هذا الاغتصاب إلى صعوبة عمل كهذا، بل إلى أن للثروة الكبيرة بريقا يأخذ ألباب الناس ولذا لا يستطيع أحد أن يتحمل رؤية رجل غني تُساء معاملته.

لا يقلل من أهمية وجود منظمات قوية داخل الدولة كمنظمات النقابات العمالية مثلا، إلا الموظف الذي يطمح إلى سلطة لا حد لها أو المنظمات المبنية على المنافسة كتعاونية أرباب العمل التي تطمح إلى رؤية خصم غير منظم. ولما تصبح الدولة قوية جدا، لا يجد الناس منفذا سياسيا إلا في منظمات هامشية تهدف لتحقيق غايات محدودة جدا، ولكن عندما ينعدم وجود منفذ للإبداع السياسي، يفقد الناس حماسهم الاجتماعي واهتمامهم بالمسائل الهامة ويصبحون فريسة للساسة الماكرين ومهيجي الأحاسيس الخداعيين الذين أجادوا فن اصطياد أصحاب الانتباه السقيم.

يكمن دواء هذه الآفة السياسية في إعطاء سلطات أكثر للمنظمات الاختيارية لا في التسلط عليها، وفي إفساح مجال العمل السياسي أمام كل فرد بشكل يتناسب مع منافعه وقواه، وفي حصر مهام الدولة قدر المستطاع في صيانة الأمن وفي التوفيق بين المنافع الضاربة. إن فضيلة الدولة الأساسية هي ردعها للعنف بين المواطنين. ولكن مضارها الأساسية هي تشجيعها لاستخدام العنف في الخارج وإرهابها لكل فرد بحجمها الكبير الذي يثير فيه شعورا بالعجز التام في مقاومتها حتى في البلدان الديمقراطية. سوف أعود إلى مناقشة مسألة منع استخدام العنف والحرب فيما بعد. لا يمكن إزالة شعور الفرد بالعجز من خلال المطالبة بالعودة إلى المدينة الدولة إذ أنها مطالبة رجعية مثل المطالبة بالعودة إلى أيام ما قبل الآلة. لا تتم إزالة ذلك العجز إلا وِفق أسلوب يأخذ الاتجاهات الحاضرة بعين الاعتبار. يتكون هذا الأسلوب من جراء تحويل الكثير من وظائف الدولة الإيجابية إلي منظمات طوعية هدفها القيام بتلك الوظائف. ولا تبقى الدولة إلا كسلك فدرالية أو كمحكمة عليا لفض المنازعات. فينحصر دورها عندئذ بالإلحاح على فرض حل ما للمصالح المتضاربة. ودعامتها في فرض حل كهذا هي محاولتها لإبعاد حل يرضي كل الجهات المختصة بوجه عام. هذا هو المنحى الذي تميل إليه كل الدول الديمقراطية في حالة السلم، أما في حالة الحرب أو الخوف من الحرب فتميل عنه. ولطالما تبقى الحرب خطرا حقيقيا يداهمنا في كل يوم، فلا بد أن تبقى الدولة كالآلة “مولوخ” (Moloch) تضحي بحياة الفرد حينا وتدفع دائما بنموه الصحيح إلى ميدان معركة التسابق نحو السيادة مع بقية الدول الأخرى. إن الحرب داخلية كانت أم خارجية هي أكبر أعداء الحرية.

ترجمة: د. ابراهيم يوسف النجار
برتراند راسل (1872- 1970)

برتراند راسل (Bertrand Russell) عالم رياضيات وفيلسوف بريطاني، ومن اشهر المفكرين والشخصيات العامة في بريطانيا، حتى وفاته في عام 1970 عن ثمانية وتسعين عاماً.

بالإضافة إلى إنجازاته في الفلسفة والرياضيات والمنطق، اشتهر على نطاق واسع بفضل كتاباته المتعددة والمتنوعة في السياسة والشؤون العامة. اتسم أسلوبه في الكتابة بالأناقة في استخدام اللغة وبروح الفكاهة، وبالاستخراج الحاذق للمثل النافي والاستثناء، بهدف إضعاف موقف الخصم وإيجاد ثغرات منطقية فيه. وهو من افضل كتّاب “المقالة” كنوع من أنواع الكتابة. عمل طيلة حياته من اجل السلم ومناهضة الأسلحة النووية وكان نصيرا للعدالة الاجتماعية في معظم كتاباته.

وقد ساهم راسل مساهمة كبيرة في تطور المنطق الرياضي الحديث. فقد طور منطق “الإضافة” وحسن لغة الرموز المنطقية. ولقد حاول راسل مع هوايتهد في بداية القرن العشرين، وهما يتبعان فريغه (Frege) ان يستكملا الأساس المنطقي للرياضيات. وقد كتب عدداً كبيراً من الأعمال الفلسفية عن مشكلات العلم الطبيعي. وقد ذهب راسل إلى ان الفلسفة تستمد مشكلاتها من العالم الطبيعي وان مهمتها هي تقديم تحليل وتفسير مادي لمفاهيم العالم الطبيعي، وان ماهية الفلسفة هي المنطق والتحليل المنطقي للغة. ويعد راسل بحق اكبر ممثل بارز للوضعية الجديدة المحدثة. وقد طرأ على نظرة راسل، في حل المشكلة الرئيسية للفلسفة، تطور من المثالية الموضوعية إلى المثالية الذاتية. فالإنسان في رأيه عليه أن يشتغل بالمعطيات الحسية. ان ما يدركه الإنسان هو “واقعه” ومركبا من “الوقائع”. والوقائع لا تعد فيزيقية أو حسية، إنها محايدة. وعند راسل ان ما يتجسد بشكل تجريبي لا يجب ان يعزى إلى مجال الفيزياء المحضة، بل إلى الفيزياء مضافاً إليها القطاع المقابل من علم النفس. فعلم النفس جزء جوهري لكل علم تربوي. وراسل في نظرية المعرفة لا-أدري (agnostic): فهو بإنكاره للنظرية المادية للمعرفة أورد فلسفة الشك محلها. وكان راسل في السنوات الأخيرة من حياته مساهماً فعالاً في حركة نزع السلاح العام. وقد خدمت مقالاته وخطبه ضد الحرب والدعوة إلى السلام، قضية التقدم الإنساني.

http://www.arabworldbooks.com/Readers2007/articles/russel_philosopher.htm


[1] السنديكالية (النقابية): مذهب نقابي عمالي يدعو إلى سيطرة النقابات (اتحادات العمال) على مختلف الصناعات والحكومة.

[2] اضطهادات المبدعين.

[3] اضطهاد السنديكاليين (يجب أن نضيف الآن معاقبة دعاة مقاومة الحرب عن دافع ضميري 1916).

[4] الهراطقة: مصطلح كنسي يشير إلى رأي أو فكرة مبتدعة (بدعة) تتعارض مع معتقدات المؤسسة الدينية. وقد كانت الكنيسة في القرون الوسطى تعاقب المتهمين بالهرطقة بالنفي والتعذيب، أو حتى بالموت.

[5] نسبة إلى بدلام: مكان مليء بالهرج الصاخب والضوضاء.

[6] تقول “وست مينستر غازت” في عدد عن التطوع صدر في 29 كانون الأول سنة 1915: “من المفروض على الأكثرية أن تحكم في البلاد الديمقراطية. أما الأقلية فيجب أن ترغم على الخضوع مع أفضل شكر ممكن”.

[7] أعطي السيد رينالد كامت، المسؤول عن دائرة تشريح الموتى في ميول ساكس الغربية، بعض الملاحظات عن تصرف بعض النساء اللواتي يلبسن قبعة مزدانة بريشة بيضاء. لقد شرح يوم السبت في ألنغ جسد ريتشارد شارك روبرتز البالغ من العمر أربعا وثلاثين عاما. انتحر هذا الشاب الذي كان يسوق إحدى السيارات العمومية في شارع شابرد بوش، بسبب القلق الذي حصل له من تعذيب النسوة المتعاونات مع بعض الرجال محترفي مهنة التطوع لأنه رفض الانخراط في الجندية.

لقد ورد في هذه الملاحظات أن الشاب التحق بالجيش في تشرين الأول، ولكنه رفض لضعف في قلبه. كان هذا الرفض كافيا لإزعاجه على حد قول أرملته. ثم داخله الاضطراب ظنا منه بأن رخصة سواقته ستؤخذ منه بسبب ذلك الضعف. وفي الوقت ذاته كان جزعا أيضا لأن أحد أولاده في حالة مرضية خطيرة.

قال جندي، يمت له بالقرابة، إن حياة الراحل أصبحت يائسة تماما لأن النساء كن يعذبنه ويسمينه جبانا لأنه لم يلتحق بالجندية. ومنذ بضعة أيام انقضت عليه امرأتان في مايدافيل “بشكل رهيب”.

كان المشرح يتحدث بشيء من الحماس قائلا إن تصرف هؤلاء النساء هو تصرف لا يطاق. إنه شيء مهين جدا لأن يسمح لنساء لا يفقهن شيئا عن الظروف الشخصية بأن يجعلن حياة رجال حاولوا القيام بواجبهم غير محتملة. من المؤسف جدا أن لا يكون عند هاتيك النساء شيء آخر يقمن بعمله.

[8] ارتكبتها إنكلترا في جنوب إفريقيا، الولايات المتحدة في الفليبين، فرنسا في مراكش، إيطاليا في طرابلس الغرب، ألمانيا في جنوب إفريقيا، روسيا في إيران ومنشوريا، واليابان في منشوريا.

[9] الكوسموبوليتية (cosmopolitanism): مذهب ينادي بوحدة الأسرة البشرية.

[10] كتبت هذه الملاحظة في سنة 1915.

[11] محكمة لاهاي العليا هي محكمة العدل العليا الدولية ومقرها مدينة لاهي في هولندا.

[12] يصح ذلك حتى ولو كان الحكم سنديكاليا أيضا.‏

اترك رد