يقول سينمائيونا((اذا لم يبك مشاهدونا أثناء مشاهدة الفلم, فإنهم لا يسامحوننا بثمن التذكره التي دفعوها ))
وبرأي أن ذلك صحيح , فنحن نعرف الضحك جيدا, ونعرف البكاء جيدا, وليست لدينا حالة وسط بين هاتين الحالتين ى, راقبوا المارة في الطريق , سترون وجوها تفرقع بقهقهات كفرقعة الذرة المصرية وهي تشوى على النار .
بالنسبة للبكاء , نحن ميالون للبكاء بطبيعتنا, فالفلم الذي لا يبكينا , والرواية التي لا تبكينا , لا يساويان عشرة قروش .

لا أحد يعرف حتى اليوم سبب هروبي من تلك المدرسة الداخلية , ففي حين كان الاطفال يجهدون لدخول تلك المدرسة , هربت أنا منها , مدرسة داخلية مجانية , تؤمن كل ألبستنا , وكل احتياجاتنا , فهل يجوز الهروب من مدرسة كهذه ؟؟ ولم اكن كسور , بل كنت مجتهدا مبرّزا في صفي .

بعد مدة طويلة , لما علموا بهروبي من المدرسة صاروا في البيت يلحون عليّ بالسؤال :
– لماذا هربت ؟
لم استطع ذكر سبب هروبي باي شكل من الاشكال , أما الآن وقد مرت اثنتان وعشرون سنه فإني استطيع القول بأني هربت من المدرسة بسبب دموع العين.
كنت في العاشرة من العمر عندما اجتزت القبول في تلك المدرسة وساعدني الحظ ففزت بالقرعة ايضا بعد الاختبار, ودخلت تلك المدرسة, مضت السنتان الاوليان بشكل جيد, لكن الامور اختلطت عندما وصلتت الى الصف الخامس .
كان لدينا في ذلك الزمن مادة اسمها (المصاحبة الاخلاقية )  عبارة عن ارشادات أخلاقية وتربوية … وقد سمعنا من تلاميذ الصف الاعلى ان هذه المادة يعلمها معلم اسمه شكري بيك , وأنه احسن رجل في الدنيا , فهو يتكلم من أعماقه بشكل مؤثر , بحيث يبكي الاطفال في كل درس ويقلب عيونهم الى ينابيع دموع , وكان تلاميذ الصف الاعلى يؤكدون :

– عندما يلقي المعلم شكري بيك درسا فانه سيجعل الصخر الذي امامه يجحش في البكاء  فكيف بلانسان؟
استهواني شكري بيك , لان معلمينا كلهم في ذلك الزمن لا يفتؤون يبكوننا , وكلما ابكونا كنا نلتصق بهم أكثر , ونتعلق بهم بكل جوارحنا . فعندما يشرح لنا معلم مادة – سيرة الانبياء – او وقعة كربلاء ,تعال اسمع ولا تبك ؟ تحمل ان كنت تستطيع …. وفيما دموعنا تجري سيولا يخرج معلم مادة سيرة الانبياء من الصف , ليدخل بعده معلم مادة العلوم الدينية . وحين كان هذا يشرح لنا عذاب جهنم الذي سيلقاه العصاة , كنا نحن التلاميذ الستون وباعمارنا بين الحادية والثانية عشرة , نختنق بالبكاء , وغالبا مالم يكن لدي منديل , فتختلط دموعي بمخاطي . وأبكي وانا اشرق انفي , بعده كان يدخل الصف معلم اللغة التركية .هو ايضا لم يكن ليتأخر عن أولئك في ابكائنا , فعندما يصف لنا مأساة شاعر الوطن نامق كمال في زنزانة ماغوسا , كانت الشهقات الصادرة عن ستين حنجرة صغيرة وآهاتها وتأوهاتها, تخرج من قاعة الصف لتشق عنان السماء . وفي درس الموسيقا , كنا نبكي بدموع تجري كأنهار الجنة , ونحن ننشد الاناشيد الدينية .
لم يكن لدينا درس لم نبكي فيه . ولم يكن لدينا معلم لا يبكينا , حتى في درس الرياضة , الذي كان يسمى آنذاك -التربية البدنية – كنا نبكي هل تسالوا كيف ؟
معلم الرياضة الذي لم يكن لديه ما يشرحه كان ينهال علينا بالضرب فيبكينا .
كنا نقدر امكانية اي معلم واهميته بمدى قدرته على ابكائنا فاذا قال تلاميذ مدرسة اخرى :
-عندما يشرح معلمنا درسا , تسيل الدموع من عينيك وانت تسمعه ,
كنا نتباهى قائلين :
– وهل هذا شيء ؟ نحن لدينا معلم , لو ترونه , انه يبكي الحجر والتراب اثناء القاء درسه .
كانت الدموع التي تسيل من عيوننا اكثر من المياه التي نشربها ؟
لذلك استهواني شكري بيك معلم مادة – المصاحبة الاخلاقية – فبهذه الشهرة المميزة التي امتسبها من بين كل هؤلاء المعلمين الذين يبكوننا بهذا الشكل , من سيعرف كيف سيبكينا هو يا ترى ؟

كنّا جميعا قد تجهزنا للبكاتء في درس شكري بيك الذي سمعنا عنه دعابات كثيرة سابقا , سياتي شكري بي في الحصة الرابعة, في ذلك اليوم , كانت الحصة الاولى درس تاريخ, شرح لنا معلم التاريخ شجاعة اجدادنا وبطولاتهم , بصورة لم يعد معها عدم البكاء بايدينا, ثم كانت الحصة الثانية لدرس اللغة التركية..معلمها ايضا ابكانا وهويشرح مرثية رجائي زاده في رثاء نجاد ابن الاستاذ اكرم الذي توفي في مقتبل العمر. اما معلم الجغرافيا الذي جاء في الحصة الثالثة, فقد شرح لنا كيف كانت امبراطوريتنا ممتدة قديما في ثلاثة ارجاء المعمورة, ثم شرح لنا ماآلت اليه وهي تتقلص شيءا فشيءا , بحيث بكينا حتى ظننا انه لم تبق  في مآقينا دموع .
حضر شكري بيك في الحصة الرابعة , قامة قصيرةوراس كبير ,يلبس بدلة رسمية, عبارة عن بنطال أسود مقلم بابيض. وسترة من الجوخ الاسود , وقميص ابيض بقبة قماش وربطة عنق سوداء, وحذاء اسود لماع , ومنديل ابيض يظهر مثلثه من جيب السترة العلوي , راسه يلمع لمعانا اذ كانت بضع شعرات معدودات طويلات ,مصففات بعناية, تغطي صلعته من الصدغ الايسر الى اليمين .
دخل الصف بخطوات تحاذر دهس نمله , وجلس على الكرسي .
ونتيجة لما سمعناه عنه مسبقا كنا على يقين بان شكري بيك سيبكينا بل كنت اعتقد باننا سنبكي ولو بقي صامتا على كرسيه مكذا دون ان يتكلم.
يا الهي .. هاقد بدأ شكري بيك بالكلام ! لا اعرف الاطفال الاخرين , اما انا فقد تدفقت الدموع من ينابيع عيني .. كنت اظن ان ينابيع عيني قد جفت من الدروس السابقه , لكن ها انذا ابكي , ولم يعد بامكاني تمالك نفسي .
وهندما خرج شكري بيك كنت نصف مغمي عليه من شدة البكاء ..
شبهت شكري بيك بضيا كوك آلب , فهو رجل على شاكلته , وهو غني حسبما سمعنا عنه , كذلك هو مدير لاحد المدارس العليا , لكن لكونه أيضا قد تعلم في هذه المدرسة , وتخرج منها , فانه تبرع باعطاء الدروس لصفوفنا الدنيا هواية وبلا مقابل , انها هواية الابكاء , هواية لا تشبه اي هواية اخرى .
لا يمكن ان يحضر شكري بيك الدرس ولا نبكي , فهو يحكي لنا عن طفولته في المدرسة فيبكينا , يتكلم عن – الوطن – فيبكينا , يتحدث عن – الامة – فيبكينا , يقول : أحبوا أمهاتكم , فيبكينا .
اما سبب هروبي من تلك المدرسة فكانت الدموع التي ذرفناها في زلزال طوربالي حيث تهدمت البيوت , ووقع العديد من الضحايا .
دخل شكري بيك غرفة الصف يومها , وكانه تمثال متحرك  لمأتم حزين , كنا حتى ذلك اليوم نحن فقط الذين نبكي , أما يومها فقد بكى شكري بيك أيضا , معنا , وحثنا على ضرورة التبرع بالمال لضحايا مأساة الزلزال , وهل يحكى بالمال ؟ كنا مستعدين للتبرع بأرواحنا . وراح يسالنا فردا فردا بكم سنتبرع ويسجل ذلك على ورقة . نحن سنجلب المال الذي وعدنا بالتبرع به , من بيوتنا عندما نذهب في عطلة نهاية الاسبوع .. نحن .. من نحن ؟؟  أطفال في الحادية عشرة او الثانية عشرة من أعمارنا , وكلنا ايتام … و من يستطيع الحصول من أمه على خمسة وعشرين قرشا في الاسبوع يعيش مرفها .

كان شكري بيك يتحدث عن ضحايا الزلزال , من ماتوا, ومن بقوا تحت الانقاض, ومن هم الآن في العراء,بصوت حزين مؤلم , والاطفال يصرخون من بين الدموع والشهقات :
-ليرة؟
– ليرتان !
انا رقيق القلب منذ خلقت , ولا يستطيع احد مجاراتي في التأثر والبكاء .
وحين كان شكري بيك يقول :
– فيما انتم الآن في هذا العش الدافىء فان اخوانكم في طوربالي .. كنت أختنق وأنا أشهق وأجهش بالبكاء بحيث فقدت نفسي وصرخت :
– ليرتان ونصف ! …
العمر أحد عشر عاما , والليرتان ونصف قبل اثنتين وثلاثين سنة تساوي خمسن ليرة الان ولكن … هل ابالي ؟؟
ما زال شكري بيك مستمرا في شرح فاجعة الزلزال, مصورا لنا مصير الضحايا والمنكوبين في لوحات حية حزينة مؤلمة , فصرخت من بين سيل الدموع والشهقات :
– ثلاث ليرات!
بعدها نسيت الحساب والمساب :
– أربع ليرات ..!..
أنّ شكري بيك انبنا وهو يقول :
– أبناء وطننا ..
فولولت ك
– خمس ليرات !..
– أخواننا في الدين ..
– ست ليرات استاذ ..!
كان يجب ان تروا حالة الصف يومها , بكاء ونحيب وعويل ..
– سبع ليرات ! ..
– ابناء بلدكم … أخوانكم …
– ثماني ليرات …
ولما قرع جرس انتهاء الحصة كنت اصرخ ..
– عشر ليرات …!!!!!!!!!!
ولو تأخر الجرس قليلا ربما كنت رفعت مقدار التبرع الى مائة ليرة بتأثير كلام شكري بيك .
لما خرجت من الصف , كانت عيناي المحمرتان من شدة البكاء تؤلماني , وكان جفناي متورمين , وكنت  ما أزال أشهق بالبكاء , وأشرق بالدمع .
غادرت المدرسة في أجازة نهاية ذلك الاسبوع , وجئت البيت , ولما حان وقت العودة الى المدرسة ووضعت أمي في يدي خمسة وعشرين قرشا ,ثبت لدي رشدي, فلو قلت لها :
– أمي , اعطني عشر ليرات فاني ساتبرع بها لمنكوبي الزلزال!..
فانها ستجهش بالبكاء وهي تقول لقد جنّ ابني.
ومن يومها لم أعد الى المدرسة ثانية . ولا أحد يعرف حتى الآن سبب هروبي من المدرسة الداخلية المجانية .
لا أعرف , هل ما زال هناك الآن معلمون مثل معلمينا القدامى, كل كلمة من كلماتهم قنبله مسيلة للدموع ؟ وهل ما زال هناك الآن تلاميذ مثلنا أعماقهم خزانات دموع ؟..

فكرة واحدة بخصوص “لا تبكوا الأطفال – عزيز نيسين –”

اترك رد